«الخروج مؤقت والعودة مؤكدة والإعمار محتم». شعار رفعه يومها رئيس الحكومة فؤاد السنيورة ليهدئ من روع الفلسطينيين المهجرين من مخيمهم، لكن هيهات.. فتجاربهم السابقة علمتهم أنه ما من مخيم دّمر وأعيد إعماره أو اعيد اهله إليه: هل تذكرون مخيمي تل الزعتر وجسر الباشا؟ هكذا، تحل الذكرى الخامسة لتهجير اهالي البارد من مخيمهم حين هاموا على وجوههم في مشهد لم يتوانَ كثيرون عن تشبيهه بمشاهد خروجهم الاول من أرضهم الأمّ فلسطين، سواء إبان النكبة العام 1948 أو في أعقاب النكسة 1967. أكثر من 25 ألف نسمة من أصل 30 ألفاً كانوا سكان المخيم الأول رسمياً للاجئين الفلسطينيين في لبنان، لأن أولى أساساته وضعت عام 1949، نزحوا إلى مخيم البداوي المجاور الذي لم يكن يبعد أكثر من 15 كيلومتراً عنهم، ما جعل المخيم الأخير، إحدى أكثر المناطق السكانية كثافة في العالم، إذ إن أكثر من 40 ألف نسمة كانوا يقيمون في مساحة لا تزيد على كيلومتر مربع واحد!
عقب انتهاء المعارك في مخيم نهر البارد والقضاء على تنظيم فتح الإسلام، شرع أهالي المخيم في إقامة تحرّكات يومية للضغط على الأونروا والحكومة، مطالبين بعودتهم إلى مخيمهم، برغم الدمار الكبير الذي لحق به. هذه التحرّكات اتخذت بُعدين: الأول فلسطيني اعتبر أن العودة إلى مخيم نهر البارد مقدمة رمزية للعودة إلى فلسطين؛ والثاني لبناني ممثل بالحكومة التي رأت أن لا طاقة لها بتحمّل تداعيات تشرد أهالي المخيم، الذين أقامت مئات العائلات النازحة منه في كاراجات بائسة ووضيعة، أو قبولها بإقامة مخيم جديد لهم في مكان آخر، فاستقر الرأي على إعادتهم إلى مخيمهم إنما بشروط. أول هذه الشروط أن مخيم نهر البارد بعد الحرب لن يعود كما كان من قبل، إذ إن تحويل منطقة المخيم إلى منطقة عسكرية بقرار حكومي، فرض شروطاً أمنية لم يعتدها أهالي المخيم لجهة دخولهم وخروجهم منه، وأجهضت أحلام التجار، في إعادة مخيمهم سوقاً ومركز تسوّق رئيسياً لمناطق الجوار كما كان سابقاً. ثاني هذه الشروط أن إعادة إعمار المخيم لن تعيد المخيم، من حيث الشكل العمراني، كما كان في السابق. أي؟ لا بناء عشوائي، ولا أزقة ضيقة لا ترى الشمس إلا نادراً، بل بناء منظم بالحد الأدنى على شكل مناطق السكن الشعبية، التي يفترض بها أن تخضع لقوانين التنظيم المدني. وهي قوانين لم يعهدها الفلسطينيون في مخيماتهم من قبل. هكذا، وتحت إلحاح وضغط سكان المخيم، عادت دفعات منهم إلى الجزء الجديد منه، حيث عملوا على إعادة تأهيله بأنفسهم ضمن الإمكانات المتوافرة. أمّا الجزء القديم من المخيم، وهو الأساسي، فخضع لسلسلة من التجاذبات التي أخّرت عملية البناء فيه، سواء بحجة وجود آثار في المنطقة، أو بسبب عدم توافر الأموال اللازمة لذلك، إلى أن أطلق مؤتمر فيينا في حزيران 2008 إشارة الانطلاق لذلك. غير أن الأموال التي جُمعت لهذا الغرض لا تكفي إلا لبناء نحو ثلث المخيم تقريباً، وهو أمر وضع الأونروا، بوصفها وكالة الوصاية على اللاجئين الفلسطينيين، أمام اختبار نوايا جدّي، وفتح الأبواب أمام جملة تساؤلات حول مصيرها في المستقبل إذا لم تعد قادرة على تأدية مهامها، وعن مصير المخيم وأهله، وعن مصير اللاجئين الفسطينيين عموماً في لبنان. وبرغم استياء الأهالي الشديد من البطء في عملية الإعمار وعدم تأمين عودة سوى نحو ثلث سكان المخيم إليه، إلا انهم يعتقدون أن عودتهم التدريجية إليه من شأنها الحد قليلاً من معاناتهم بالتشرد، ويؤمن لهم الاستقرار النسبي إلى حين عودتهم إلى فلسطين. هذه النظرة لا يختلف عليها اثنان في مخيم نهر البارد أو في أي مخيم آخر، كون اللاجئين الفلسطينيين ينظرون إلى المخيمات، من وجهة نظر سياسية، على أنها رمز سياسي يدلّ على تهجيرهم من أراضيهم، وعلى ذاكرتهم وقضيتهم التي يصرّون على إبقائها حيّة في وجدان الأجيال المتعاقبة بانتظار العودة. منذ خروجهم من فلسطين إلى الدول المجاورة على دفعات قبل نحو 64 عاماً، وتحديداً إلى لبنان، تعلم الفلسطينيون دروساً كثيرة، لكن كان أبرزها درسان: الأول هو الابتعاد قدر الإمكان عن الدخول في الزواريب السياسية اللبنانية التي اكتووا بنارها مراراً، ورفضهم الانجرار أو أن يُستخدموا أدوات لتصفية الحسابات الداخلية في لبنان.
أما الدرس الثاني الذي تعلمه لاجئو مخيمات لبنان، وتحديداً بعد معركة الجيش اللبناني وفتح الإسلام التي أدّت إلى تدمير مخيم نهر البارد؟ فهو أن عودتهم إلى فلسطين وحدها تحفظ لهم وجودهم وحقوقهم كبشر، لأن لا كرامة لنبي إلا في وطنه، خاصة إذا كان عربياً.