غزة | تشبه الطريق إلى رفح الطريق إلى بغداد. تقلّ الأشجار والشجيرات والأشواك شيئاً فشيئاً كلما اقتربنا من محافظة شمال سيناء. خطوط التوتر العالي إلى اليمين. يشير إليها السائق قائلاً «هذي الكهربا رايحة للأردن». وأي واحد هو خط الغاز الذاهب إلى الأردن وإسرائيل، الذي تم تفجيره بعد ثورة 25 يناير مرات عدّة؟ يشير إلى سور من الحجارة وسط رمال الصحراء، موازٍ لسور آخر يشبهه تماماً، بدا أنه يطمر تحته أيضاً شيئاً ما. يقول السائق: «هذا هو خط الغاز، بجانبه خط مياه النيل التي تصل إلى رفح، لكن إحنا موش عايزينها لأن عندنا نظام الآبار».
يقول الجملة الأخيرة بفخر وطني ما. يبدو أن المحبة مفقودة بين البدو وأهل مصر. أسأله من الذي فجّر خط الغاز؟ يجيب «أو النظام أو الموساد!». وكيف ذلك؟ يجيب «ليقولوا إنه من غيرهم مفيش أمن، والموساد علشان يلعبوا بالأمن». هكذا ببساطة.
الطريق يصبح صحراوياً صرفاً. يكتسب فجأة جمالاً قلّ نظيره. جنّة صحراوية من النور والألوان الرائقة الممتدة إلى ما لانهاية. الأفق مقطوع كما بحدّ السكين إلى لونين: أزرق السماء الصافية كما تراها من قمرة طائرة تحلّق على علوٍّ شاهق، وأصفر الصحراء الذي لا تكسره إلا ظلال الكثبان الرملية واضحة الانحناءات. لا رماديات هنا. لا تدرُّجات. تكاد عيناك تؤلمانك لشدة سطوع الألوان. تتذكر الرسامين الذين شاهدوا الشرق للمرة الأولى. تفهم ما الذي أشاروا اليه بقولهم إنهم اكتشفوا الألوان فيه. ساعة ونصف من الرمال، ولا تملّ من النظر. الطريق إلى المعبر من القاهرة يستغرق خمس ساعات. أُلصق وجهي بزجاج السيارة وهي تنهب الأرض نهباً. من بعيد بعض الإبل هنا وهناك. بعض أشجار النخيل أيضاً. يقول السائق: «الآن أحس أنني في بيتي».
«محافظة شمال سيناء ترحب بكم». نقاط تفتيش الجيش أيضاً. البحر المتوسط يظهر إلى يسارنا من خلف الكثبان. لهجة الناس هنا فيها شيء من فلسطين وشيء من مصر. تظهر فجأة شجرات زيتون. قليلة ولكنها كافية.
«مدينة الشيخ زويد ترحب بكم». دبابة للجيش. لا أحد يستوقفنا. فجأة يقول السائق، وهو يشير إلى تلة بعيدة تبدو في الأفق وقد اكتظت بالمباني، «أستاذة... شفتي خط البيوت هناك فوق التلة؟ هذي فلسطين».
أخيراً رفح. اكتظاظ فوضوي أمام المعبر الذي يشطر المدينة إلى شطرين: جانب مصري نقف فيه الآن، وجانب فلسطيني دونه تراخيص وأذونات. هي الحدود إذاً. وكما على كل حدود، يعجّ المعبر بالمسترزقين من صرافين وحمالين وباعة شاي وقهوة ومسافرين حائرين بأمتعتهم الكثيرة وسيارات أجرة وباصات. الأمور تجري بسهولة فائقة. موظف المركز الإعلامي يرافقني من مكتب إلى مكتب، تنتهي المعاملات بنصف ساعة. نخرج مع المحظوظين بانتهاء المعاملات إلى باص متوقف في باحة خلفية. نقطع تذكرة بـ25 جنيهاً ليوصلنا إلى الناحية الفلسطينية من المعبر. ننتظر حتى يمتلئ الباص بالمسافرين ساعة أخرى. أخيراً، يتحرك الباص باتجاه المركز الفلسطيني الحدودي. أُلصق وجهي بالنافذة. لا أريد أن يفوتني أي تفصيل. لكن ما أن يتحرك الباص ويخرج من بوابة تبعد نحو عشرين متراً عنا، حتى يتوقف. ماذا حصل؟ أسأل الراكبة إلى جانبي، فتنظر إليّ ضاحكة وهي تشير إلى لافتة كبيرة تقول «أهلاً بكم في قطاع غزّة ــ بوابة فلسطين الجنوبية»: لقد وصلنا.
صفّ طويل أمام شباك الأمن الذي نقطع منه أيضاً تذكرة للباص الذي سيخرجنا من المعبر بقيمة... 5 شيكلات! يا إلهي. سأتعامل بالشيكل؟ لا أستطيع. أسأل الموظف: «هل أستطيع الدفع بالجنيه المصري؟»، يجيب بالإيجاب، لكن أحد الشبان يخرج من جيبه بشهامة قطعة خمسة شيكلات معدنية (دولار وربع تقريباً) ويشتري لي تذكرة. حسناً، حلّلناها الآن ولكن ماذا سأفعل في ما بعد؟ أقرّر تأجيل التفكير. لا أريد لأي شيء أن يشوّش عليّ لحظة لقائي بفلسطين. هكذا خرجنا من بوابة المعبر التي يعلوها علم فلسطيني خفّاق... إلى فلسطين.
أنا الآن «هناك»! كمٌّ من المشاعر تتلاطم في قلبي وعقلي. لا أكاد أرى شيئاً لكثرة ما أرى. أرى كل شيء ولا أرى شيئاً. يجب أن أستوعب بسرعة كيف يصبح «الهناك» المستحيل، ببساطة... هنا. ما أن نخرج من النقطة الحدودية حتى أطلب إلى السائق التوقف. أترجّل من السيارة ذات اللوحة الخضراء العمومية. أمامي تمتد حقول من البازيلاء، وفي الأفق بيوت متفرقة، متواضعة، أشبه بقرى البقاع عندنا. أنظر إلى الأرض التي أقف عليها بعد الخطوة الأولى، كأنني سأتعلم المشي من جديد. هذه هي أرض فلسطين؟ أنظر بحيرة، وعيوني ممتلئة بدموع أموّهها تحت نظارتي الشمسية إلى الأرض الرملية البيضاء تحت قدميّ، والتي اختلطت بكل أوساخ أحذية العابرين. كيف أفي نِدري؟ لم أكن أعلم أنه يمكنني أن أدوس على أرض فلسطين؟ كنت أظن أن هذه الأرض يمكن فقط تقبيلها. هذا التراب واقعي جداً. حسمتُ أمري، انحنيت، التقطت حفنةً، رفعتها إلى فمي، فإذ بي أشاهد فيها... بقايا علكة. أكتفي بالنظر إليها بحنوٍ فائق لا يخلو من سخرية، من نفسي طبعاً، ثم أرمي بها إلى الأرض.
لكن تلك الحركة لم تمر مرور الكرام، فقد وقف رجلان بثياب أقرب إلى الرثاثة، متكئين على شاحنة «بيك أب» صغيرة، أمام بوابة المقر الحدودي، يراقبانني وقد ارتسمت على وجهيهما ابتسامة سخرية، لا بل إنهما لم يتورعا عن التعليق بصوت عالٍ «شوف هادي كمان... شو جابك من بلادك لهون. حد بيترك ايطاليا وبيجي لهون؟».
لسببٍ ما، قرّر الرجل أنني إيطالية. أقترب منهما وأرمي السلام، فيبهتان على شيء من الارتباك. أسأل عن سبب هذا الغضب وتلك المرارة؟ فيجيب أحدهما «حد بيدخل السجن برجليه؟» ثم يقول ما معناه إنهما عاطلان من العمل، وقد حاولا الخروج إلى مصر بحثاً عن فرص أخرى للعمل في كهرباء السيارات، لكنهما لم ينجحا في ذلك. ثم يضيف الأكبر سناً أنه «في بلد بالعالم بتنقطع فيها الكهربا 8 ساعات وعشر ساعات باليوم؟». من بين كل المشاكل لم يختر الرجل إلا الكهرباء.
ننطلق باتجاه غزة المدينة. أسال السائق التمهل. أريد أن أستوعب كل هذا. كل شيء أعرفه عن غزة كان نظرياً، وهو الآن يبحث عن صورته الواقعية، عن ترجمته الميدانية. لا يسهِّل صديقي الفلسطيني الأمر. ينهال عليّ بكمّ من المعلومات: هنا خان يونس، هنا دير البلح، هذا الشارع الذي نسلكه اسمه شارع صلاح الدين وهو أطول شارع في غزة. الشارع يمتد من معبر رفح الى معبر إيريتز (بيت حانون) على الحدود مع «اليهود». لا أحد يقول إسرائيليين. هناك إسرائيل وهناك اليهود. هذا شارع البحر، الموازي لشارع صلاح الدين، وللبحر بالطبع. هنا كانت المستوطنات قبل التحرير وقد تحولت اليوم إلى أرض زراعية للسلطة. هذه الأرض الجرداء الممتلئة بالخردة كانت كلها مشجرة، لكن إسرائيل جرفتها خلال الاحتلال. يشير إلى تقاطع اجتزناه للتو تمركزت على جانب منه نقطة تفتيش عسكرية، يقول: هنا كان معبر نتساريم، سُمي كذلك «لأنهم» كانوا يعبرون منه الى المستوطنة التي تحمل الاسم ذاته على شط البحر بالجهة المقابلة. هنا كانت تحصل المواجهات خلال الانتفاضة، على حد تعبيره، قبل أن يضيف ببساطة «وهناك، قبل نقطة تفتيش نتساريم بعشرين متراً تقريباً، استشهد محمد الدرّة في حضن أبيه».
نصل غزة المدينة ونحن نتسابق مع نور النهار الآفل. الأخبار تقول إن عاصفة آتية، لم ترَ غزة لها مثيلاً منذ خمسين عاماً. لم يبقَ شيء من النهار لكي نتجول في المدينة. نعرّج على الميناء القريب من الفندق. البحر، رئة غزة، حتى البحر سوّره الاحتلال بإطلاقه النار على مراكب الصيادين إذا تعدّوا الأميال الثلاثة «المسموح» بها. كأن البحر هو باحة السجن التي يسمح للسجناء بالتنزه فيها تحت الشمس. لكن الصيادين الذين التقيتهم فور وصولي، أكدوا أن الإسرائيليين يطلقون النار عليهم حتى قبل وصولهم إلى حدود الأميال الثلاثة. الفندق بالقرب من المرفأ. لا نسأل الحراس على بوابة الميناء الدخول. ندخل فقط. وهناك، وسط مشهد يشبه مرافئ الفقراء، ارتفع نصب بدا أنه لتكريم شيء ما. نقترب منه فإذا به لتخليد شهداء أسطول الحرية. على النصب الدائري لوحات رخامية تحمل كل منها اسماً من أسماء الشهداء الأتراك التسعة (الذين سقطوا على متن سفينة مافي مرمرة في 31 أيار 2010) بالعربية وبالتركية.
وصيادو غزة، ككل الصيادين في العالم، شديدو السمرة، لكنهم أنحف بكثير. هزال يشبه هزال الرزق الذي يستطيعون صيده من هذه الأميال الثلاثة من بحرهم المحتل. «أصلاً بتوصليهاش» يهتف أحد الصيادين الجالسين أمام البحر وهو يصلح إلى جانب رفاقه، شباكهم الممزقة، قاصداً حدود الأميال الثلاثة. ويشرح «رصاص حي وشتايم وأحياناً بيسرقون منّا الشباك». لا يتأخرون عن السؤال من أين أنا. ولكلمة لبنان تنفرج الأسارير. أحدهم يقول لي إنهم كانوا قبل العام 1967 يخرجون بالمراكب إلى لبنان: «كانوا أهلنا يطلعوا من هان، ويشربوا الترويقة على الدورة»، يقول. يدعوني إلى العودة في الغد لمقابلة من يقولون إنه «نقيبهم»، ويفسرون بعد سؤالي: «هو مفيش نقابة طبعاً، بس إحنا هيك سميناه». ينظر الرجل العجوز إليّ ويقول كأنه يريد أن يؤكد تفوقه بالخبرة «بكرة جايي منخفض رح يبقى ليوم الأحد. مفيش صيد. ربنا يستر الميناء حالتو حالة».
يوصلني السائق إلى الفندق القريب. صف من الفنادق في الشارع. ما أن أدخل حتى أسمع هديراً قوياً وتفوح رائحة المازوت. أولى الاشارات إلى أزمة القطاع الكبرى التي سأسمع عنها كلما تلفّتّ هنا: الكهرباء. أكاد أجزم أنني لن أحس بالحنين إلى الوطن.



انهيارات في الميناء


أكدت وزارة الأشغال العامة والإسكان في الحكومة الفلسطينية المقالة في قطاع غزة، أن آلياتها توجّهت منذ صباح أمس إلى منطقة ميناء غزة لمواجهة عواصف المنخفض الجوي التي أدت إلى عدد من الانهيارات في حواف الميناء، وأضرار بالغة في مرافقه. وجاء في بيان للوزارة، أن «آلياتها شرعت وضمن خطط الطوارئ العامة بمواجهة العواصف الرعدية الشديدة التي ضربت غزة خلال اليومين الماضيين». وأشارت إلى أن الآليات توجّهت منذ الصباح الباكر إلى منطقة الميناء، وذلك لمواجهة العواصف الشديدة التي ضربت الميناء وأحدثت ثغرة كبيرة في أحد جوانبه. وتابع البيان أن الآليات قامت بنقل كتل خرسانية كبيرة وعمل تدعيم للجوانب التي تعرضت للانهيار في الميناء وإغلاق الفتحات التي حدثت في حواف الميناء. وناشدت الوزارة بضرورة إدخال المعدات والآليات للقطاع وذلك لمواجهة الأوضاع الطارئة.