دمشق | في الوقت الذي شُغلت فيه دمشق بالاستفتاء على الدستور الجديد في الداخل، وفيما واصلت معارضة الخارج انشقاقاتها، كان حي كفرسوسة في قلب العاصمة، دمشق، يعيش «مسائية» (تظاهرة ليلية) ضدّ الاستفتاء والتصويت، وتناصر حمص، لكنها ما لبثت أن تحولت الى مأساة بعد مقتل خمسة أشخاص بالرصاص، جرى تشييعهم أمس.
حتى اللحظة يبدو الخبر طبيعياً، في سياق اليوميات التي تشهدها بعض المدن السورية. ولكن أن ترصد حالة التشييع وما بعد التشييع، بنحو مغاير لما ترصده التنسيقيات، فتلك بحدّ ذاتها مسألة جديرة بالاهتمام، وخصوصاً بعدما بات أي تشييع في عاصمة الأمويين بمثابة مشروع تظاهرة حاشدة، كما سبق أن حصل في أحياء أخرى كالمزّة والميدان والقدم وغيرها.
يبدو الوصول إلى الحي مغامرة شبه مستحيلة مع الانتشار الأمني الكثيف، وهذا وضع لا يمكن استغرابه في ظل وجود عشرات المراكز الأمنية المحيطة بالحي، والكفيلة بالتعامل مع أي تظاهرة قد تشهدها المنطقة. فور الوصول إلى هناك قرب جامع الرفاعي، تتلقّى تحذيراً من سائق تاكسي ينصح بأخذ الحيطة، وخصوصاً من زملائه السائقين «الذين قد يجمعون مع عملهم مهنة أخرى هي قمع الناس».
ومع متابعة المسير نحو الداخل، تلاحظ الإضراب العام في الحي، مع إغلاق كافة المحال حداداً على أرواح الشهداء، كما يقول الأهالي. وفي الطريق تسير سيارات تابعة للأمن، وتقطع مداخل بعض الحارات، وتتمركز عند مداخل البعض الآخر، لتدرك لاحقاً أنها تحاصر المنطقة، منعاً لوصول أي وافد جديد للتشييع أو التظاهر.
هناك قرب المسجد يتجمع الناس رجالاً ونساءً. يطغى ارتداء اللثام على بعض الوجوه، فيما يتزايد القلق من الاقتراب من أي شخص للسؤال عن أي شيء. وفي كل الأحوال، فإن الإجابات غالباً ما تكون مبهمة، فيما يبدو أن القاعدة المشتركة لدى معظم الأهالي هي: احذر الصحافة. وهو ما تبين لنا من خلال «دردشة» مع أحد المتظاهرين، حيث لوحظ من خلاله أن صحافياً كان يسير بين الناس، ولم يلبث أن اختفى بين الجموع!
أعداد المشيعين تزداد تباعاً، وكذلك الأمن المستنفر والحاضر بالعتاد الكامل، ومعهم يصل جثمان أحد القتلى (خالد عبد العزيز)، فيما يبدو أن قتيلاً آخر قررت عائلته دفنه بصمت لأن كبار العائلة لا يريدون «شوشرة»، بحسب قول أحد أقربائه. تنتهي الصلاة على (خالد) وتنطلق الهتافات: «أبو الشهيد ..ارفع رأسك»، «دم الشهيد.. ما نسيانينو»، «الشعب يريد حماية ربانية»، «عوايني الشام.. دمك مهدور».
وبالطبع لم تغب حمص وبابا عمرو عن حناجر المتظاهرين. أما اللافت فكان عدم رفع أي لافتة تناصر المدن التي تتعرض للعنف أو تدعم المجلس الوطني و«الجيش الحر»، ولا حتى علم الاستقلال. وقد تبين لاحقاً أن ذلك جرى بطلب من تنسيقية الحي التي قررت عدم رفع أي لافتات، لتحاشي التصادم المباشر مع الأمن، كما يقول أحد المتظاهرين.

يقترب التشييع من المقبرة، ويقترب معه الحضور الأمني، دون أن يطلق النار، وتصل الأعداد حتى هذا الحين إلى قرابة ثلاثة آلاف متظاهر. ومع انتهاء الدفن والازدحام الشديد، يطلق البعض صرخة «الجيش الحر ... الله يحميك»، فيسارع البعض الآخر إلى الطلب منهم التوقف عن ذلك خشية إطلاق النار. وتواصل التظاهرة سيرها الى مسافة قصيرة بعد المقبرة، قبل أن تتفرق تدريجاً، فيما الاستغراب مسيطر على وجوه الكثيرين، بسبب عدم تدخل الأمن.
رغم هذا يتفرّق الناس ويسيرون كل في اتجاه. يعود المشهد ويتكرر مع تشييع ثاني الشهداء (علاء حبروش) بعد ساعات قليلة. ولكن صوت الرصاص طغى هذه المرة، إضافة الى اعتقالات طاولت كل من له أو ليس له علاقة بالتشييع، وتضاربت الروايات بعدها بين من قال إن الأمن أطلق النار إثر اعتداء المتظاهرين على رجل يُقال إنه مخبر لمصلحة الأمن، فيما قال آخرون إن السبب هو الهتاف لمصلحة «الجيش الحر».
في الوقت نفسه الذي شهدت فيه حارات كفرسوسة تشييعاً لأحد شهدائها، وعلى بعد أمتار قليلة، كانت الحياة طبيعية في مركزين تجاريين. الناس تتحرك طبيعياً، وتأتي المفاجأة الكبرى لدى السؤال عمّا يحدث في الجوار، بحيث تأتي الإجابة بالنفي والقول إن الدنيا ربيع والحياة تسير كما هي. أما من أقرّ بوجود تظاهرات وتشييع، فجاءت إجابته أكثر غرابة بقوله «يصطفلو. نحنا شو دخلنا».