في هذا اليوم من كل عام، يكرّم العالم المرأة على مجهودها تجاه المجتمع وما قدمت إليه على مدار العام، متناسياً أو متجاهلاً المرأة الفلسطينية المناضلة، والمقاومة، أم الشهيد أو أخته، زوجته أو ابنته، وحتى المعتقلة إدارياً، أو المضربة عن الطعام مقابل حريتها. المرأة الفلسطينية كانت من أوائل النساء العربيات التي قدمت روحها دفاعاً عن قضيتها المركزية، لكن الشارع العربي والرجعية المتحكمة في عقلية الشعوب، حوّلا السيدة الفلسطينية من تاريخ يفتخر به إلى تحفة يحتفل بها في المناسبات فقط. هذه المعاملة «الناقصة» للمناضلة الفلسطينية جعلتها تبتعد عن المعترك السياسي والنضالي وتجلس جانباً، مفسحةً المجال أمام المجتمع الذكوري ليأخذ مكانها ببشاعة ليس لها مثيل.
تحتفل الفلسطينيات على طريقتهن، بزيارة أولادهن الشهداء أو الأسرى

دخلت المرأة الفلسطينية التاريخ من أوسع أبوابه عندما قادت المسيرات الحاشدة ضد الاحتلال الإنكليزي عام ١٩٢٠، فكانت المحرضة والمناضلة والمقاتلة والشهيدة، وكانت في المقدمة دائماً، أكان في القدس أم يافا أم حيفا. وفي ثورة ١٩٣٦ لم تهدأ المرأة الفلسطينية، بل شاركت في الثورة وحملت السلاح وقاتلت. وفي حرب ١٩٤٨ لمع اسم «زهرة الأقحوان»، الذي قد يظن بعضهم أنه اسم لمقطوعة موسيقية، ولكن هذا الاسم بجمال إيقاعه وبهائه حمل الرعب والخوف إلى قلوب الصهاينة، فهو اسم لمنظمة نسائية عسكرية.
«زهرة الأقحوان» بدأت بصفتها جمعية نسائية اجتماعية الطابع، أسّست في يافا عام ١٩٤٧ على يد المناضلة مهيبة خورشيد. اهتمت الجمعية بالوحدة والجمع بين الأديان، وساعدت الطلبة الفقراء بصورة غير مباشرة، ثمّ تحوّلت في ما بعد إلى الكفاح المسلّح. تقول خورشيد إنّ التحوّل إلى العمل العسكري جرى عندما قتل أحد الأطفال الفلسطينيين بين يدي أمه أمام عينيها، بعدما أطلق الصهاينة النار عليه من مستوطنة «بات يام» المجاورة. سبب اختيار خورشيد لزهرة الأقحوان اسماً لجمعيتها كان للدلالة على الحياة والجمال والديمومة، ولتأثرها بكتاب قرأته يشير إلى تأثير الزهرة القرمزية في الثورة الفرنسية، إضافة إلى كثرة الأقحوان في فلسطين.
في ١٩٦٨، بدأ كعب المرأة الفلسطينية يعلو في ساحات المعارك، فكانت شادية أبو غزالة أولى الشهيدات بعد نكسة 1967؛ فقد توفيت وهي تعدّ في منزلها قنبلة لتفجيرها في مبنى في تل أبيب. وبعد شادية، تعرفنا إلى المناضلة ليلى خالد، التي نفذت عملية جريئة عام ١٩٦٩ عندما خطفت طائرة أميركية، وطلبت من ربانها التحليق فوق سماء تل أبيب، والطيران على علو منخفض فوق مسقط رأسها مدينة «حيفا» التي طردت منها وهي في الرابعة من عمرها.
هذه العميلة حوّلت ليلى خالد إلى أسطورة راسخة في الوجدان الفلسطيني أكثر من غيرها من رموز العمل الفدائي، لأن جرأتها لم تقتصر فقط على تلك العملية. فبعد عام واحد عاودت الكرة، وحاولت خطف طائرة أخرى تابعة لشركة «العال» الإسرائيلية. لم تأبه بأن صورتها وملامح وجهها باتا معروفين، وبأنها صارت مطلوبة لدى أجهزة الأمن كافة عبر العالم، فغيّرت ملامح وجهها، بإجراء جراحة تجميلية، وتزوّدت بجواز سفر هندوراسي. وبذلك استطاعت أن تحتال على الأمن الإسرائيلي في مطار «أمستردام»، وتمكنت من الصعود على متن طائرة «العال» وخطفها، ولكن النجاح لم يحالف العملية الثانية، فقد استشهد رفيقها في العملية، وأصيبت بجراح، ثم سُجنت في لندن.
بعد خالد، كانت عملية دلال المغربي التي سطّرت صفحة بطولية لا مثيل لها على الساحة الفلسطينية والعربية، بتنفيذها وبقيادتها عملية «كمال عدوان». المغربي صارت بالنسبة إلى الفلسطينيين إحدى أشهر المناضلات التي هزّت الاحتلال عام ١٩٧٨، فلقّبوها بـ«عروس يافا».
اليوم، بينما يحتفل العالم بيوم المرأة (طوال السنة لا يرى المحتفلون إلا جسد المرأة وكحلها وكعبها العالي الذي يبرز معالم جسدها)، تحتفل الفلسطينيات بيومهن على طريقتهن، عبر زيارة أولادهن الشهداء في المقابر، أو الأسرى في السجون. وهي لا تزال، كما نساء عربيات كثر، تقدم كل يوم أمجاداً للتاريخ النضالي، وتثبّت موقع المناضلات العربيات في كل الساحات، رغم ذكورية المجتمع.