أعادت مصر خلط الأوراق. «أم الدنيا» هي أم المعادلات الجديدة. أحداث ميدان التحرير لن تبقى معزولة. ستنتقل إلى دول الجوار، ومنها لبنان، وإن كان الأخير سيتلقف تداعياتها بتأثير أقل عن بقية الدول. ويبقى الفاصل بيننا وبينها سوريا. يُقال إن ثمّة من يرتجف هلعاً في لبنان من مشهد تفتّت التجربة الإسلامية في مصر، وخصوصاً من انتشى بدعم عرّابيها للمعارضة السورية. لا يختلف اثنان على أن فريق الرابع عشر من آذار أظهر ارتياحاً من الجو العام بعد وصول الإسلاميين الى الحكم في دول الربيع العربي. لم تكُن كلمة «فليحكم الإخوان» التي خرجت على لسان رئيس الهيئة التنفيذية في القوات اللبنانية سمير جعجع، تأييداً لموقف صبّ في مصلحة الإسلاميين اقتراعاً في صناديق الانتخاب، عابرة، بل كانت محاولة للاستفادة من جو العدائية الذي تعاطى به «الإسلاميون» مع حزب الله والنظام السوري. تماشت قوى الرابع عشر من آذار مع هذا الصعود، وإن لم يُعلن الحليفان الأقوى لمعراب موقفهما بوضوح كما فعلت الأخيرة، الا أن حديث قريطم وبكفيا عن مسار الديمقراطية الذي أوصل «الإخوان» إلى رأس السلطة في مصر، كاد لا ينتهي. كل ما كان يعني هؤلاء، موقف محمد مرسي وإخوانه ممّا يحصل في سوريا. سوريا هي الأساس. يحتاج ميدانها الذي يُراهن عليه الآذاريون إلى من «ينصره». ليس مهماً ما كان سيحصل في الداخل المصري نتيجة «أخونة الدولة»، الأهم الذي كان ينظر إليه فريق الرابع عشر من آذار، وتحديداً تيار المستقبل، مدى قدرة هذا المشروع على إحداث تغيير في الداخل السوري، على نحو يصبّ في مصلحته.
قبل خلع مرسي من الحكم، رأى أحد نواب المستقبل أن «لا تأثير لتبدّل المشهد المصري على واقع السياسة اللبنانية»، لكن تسارع الأحداث على نحو لم يكُن متوقعاً، كفيل برصد الموقف المستقبلي المناهض لنظام الرئيس بشار الأسد، الذي يرى في تحطيم فرعون مصر الثاني سقوطاً لمشروع الإسلام السياسي المناهض للنظام العلماني في سوريا. وهذ يعني أن «جماعة الإخوان المسلمين في سوريا، تعيش اليوم أسوأ كوابيسها وأشدها بؤساً».
يرفض «المستقبليون» ما وصفوه بـ «فرح المهلّلين الانتهازيين» لسقوط الإخوان في مصر. لا مكان لفرضية تتحدث عن «خسارة الثوار السوريين حليفاً مهماً جداً». فسقوط مرسي «لا يعني سقوطاً للثورة الشعبية السورية التي لا يمثل الإسلاميون الا جزءاً بسيطاً منها». يسخر بعضهم ممّا يُحكى عن «ردّ فعل مصري على إغلاق السفارة السورية في مصر»، فلو كان ما يُحكى صحيحاً «لكنّا قد شهدنا هذه الفورة ضد قرار الإخوان احترام معاهدة كامب دايفيد». إذاً «ليست لعنة سورية هي التي حلّت على مرسي كما يتوهّم البعض». وبالتالي، «ليس طبيعياً أن يتصوّر الفريق المعادي للثورة السورية، أن ثوارها اليوم محبطون ويائسون وحزانى»، بل على العكس «فقد تنفست المعارضة السورية الصعداء بعدما شهدت قدرة الإرادة الشعبية على تحقيق مبتغاها، كما حصل في مصر، بخلع الرئيس محمد حسني مبارك ومن بعده مرسي». فبمعزل عن مصير الاسلاميين، سيعطي الحدث المصري للثورة السورية حوافز ويرفع من منسوب معنوياتها.
يبدو الموقف المستقبلي ممّا يحدث في مصر حذراً، وإن كان قريباً إلى الترحيب السعودي. الإرباك الذي يُمكن للمستقبل استشعاره في الصميم، نتيجة تهاوي أنظمة سياسية تتقاطع مع موقفه في العداء للمقاومة، لا يثني شخصياته عن «الترحيب بما حصل». ربما لا يُمكن المستقبل تخطّي الموقف السعودي الذي وقف إلى جانب قرار القيادة العسكرية في مصر. لذا ينمّق هؤلاء توصيف الحالة باعتبار «سقوط الإخوان في مصر، رسوباً لتجربة ديكتاتورية مقنعّة، بشكلها الحزبي لا الفردي. تجربة لا يُمكن ربطها بتونس ولا بأي دولة أخرى، لأن لكل منها خصوصيتها»، ولأن ما حصل «انتصار لإرادة جماهير مليونية اضطرت إلى الاستعانة بالعسكر ضد وجه من وجوه الديكتاتوريات التي منعت إنشاء أحزاب سياسية حقيقية في المجتمعات العربية، عندها من الوعي ما يكفي لإدارة البلاد».
جاء التحول المصري الكبير أول من أمس، ليطرح تساؤلات عن مصير «جماعة» العرب في لبنان. تيار المستقبل واحد منهم، وخصوصاً أننا أمام مرحلة جديدة ستعاد فيها عملية النفوذ والسيطرة. فهل يرى المستقبل في سقوط الإخوان المسلمين مصلحة تستوجب استثمارها في الداخل اللبناني؟ في لبنان قراءات متعددة ومختلفة للمشهد المصري. على عكس وجهة نظر خصوم المستقبل التي تقول إن «سقوط مشروع الإسلام السياسي سيكون صفعة مدوية له ولحلفائه في البلد»، يرى تيار «الاعتدال» الذي لم يترك مسؤولوه مناسبة للتحريض المذهبي إلا استغلوها، في هذا التحوّل «تعزيزاً لمبدأ الربيع العربي»، مجهضاً بذلك كل «النظريات التي تحدثت عنه بوصفه خريفاً دموياً». لا تُقلّل أوساطه من أهمية الحدث، لكن «تأثيره في لبنان مرتبط حكماً بتأثيره في سوريا، حيث إن الجمود المحيط بالساحة اللبنانية الداخلية لا يمكن أن يُحرّك الا عن طريق دمشق». في بيئتهم السياسية والطائفية، يُجيد «المستقبليون» ترجمة ما حصل إيجاباً. يرون أن «تيارهم أكثر المستفيدين في لبنان من سقوط المشروع الإسلامي، الذي انعكس صعوده في الحكم خسارة شعبية لهم، بعدما استقطب اللسان الإسلامي المتطرف فئة كبيرة من «شارعهم». يؤكّد هؤلاء أن «تسلّق الإسلاميين سلّم السلطة في العالم العربي، مدعومين من دول عربية، كاد يسحب الورقة السياسية من يد تيار المستقبل، بالتزامن مع تراجع الحضور السياسي والمالي له في الداخل، وخروج الرئيس سعد الحريري من السلطة، وظهور حالات إسلامية متطرّفة في لبنان نجحت إلى حد ما في أخذ نسبة لا يُستهان بها من القاعدة الشعبية للمستقبل، مسندة بدعم عربي سياسي ومالي». وبالتالي فإن «فشل مشروعهم في مصر، وبالتالي في المنطقة، سيرد للمستقبل اعتباره ويعيد الورقة السياسية المسلوبة إلى حضنه، ويقوّي خطّه المعتدل الذي يحظى بحاضنة سعودية، في ظل تبدّل الموقف القطري تجاه الإخوان، إذ لم يتأخر أمير قطر الجديد تميم بن حمد ال الثاني هو الآخر في تهنئة الرئيس المصري المؤقت عدلي منصور». المرحلة الدولية الراهنة، كما يُفسرّها المستقبليون، هي «مرحلة لملمة الأدوات المثيرة للمتاعب». يستشهدون بما حصل في صيدا أخيراً، وأدى إلى «إنهاء حالة أحمد الأسير»، وهو تطوّر «لن يقف عند حدود عبرا، بل سيشمل عدداً من النماذج الشبيهة بحالة خطيب مسجد بلال بن رباح». في المحصلة «سيستفيد تيار المستقبل من المشهد المصري». سيبحث عن كافة السبل التي ستتيح له إعادة جمهوره إلى حضنه، ولن يحصل ذلك الا في استمرار اعتماد اللغة المعادية للمقاومة، وتكثيف الهجوم والضغط على حزب الله.