القصير | لا يبدو سقوط مدينة القصير في يد الجيش السوري بهذه البساطة التي تتسابق بعض المحطات إلى اختراعها، فالبث المباشر عبر الأقمار الاصطناعية وحده لا يصنع انتصاراً وإن اعتمد النظام ومؤيدوه على أسلوب أعدائهم في الحرب النفسية والإعلامية التي فاجأت المعارضة خلال اليومين الماضيين، وأدت إلى هبوط معنويات المعارضين سريعاً خلال ثلاث ساعات من بدء العملية، ما حقق جزءاً من أهداف الهجوم الإعلامي الساحق لصالح النظام. لكن الوضع على الأرض مختلف جداً. الجيش السوري الذي استمر في التحضير لمعركة مدينة القصير قرابة الشهر، بعد سلسلة من العمليات النوعية في ريفها، توّج تحضيراته بمعارك تعتبر الأشد عنفاً في تاريخ المرحلة السورية المتأزّمة، ويحقق تقدّماً، يصفه ضبّاطه بـ«التقدّم الحذر».
في الطريق إلى حمص، يظهر التدقيق الشديد، بوضوح، على الحواجز العسكرية التي تسبق الوصول إلى المدينة، ما قد يؤخر الرحلة لساعات إضافية، فيما الطريق إلى القصير يبدو أكثر سهولة. الطريق الخاوي من السيارات والمارة يوحي بالكثير من الغموض والخوف، حتى لتبدأ الكوابيس داخل رؤوس من يدخل المكان، وأفكار مخيفة أن في نهاية هذا الطريق تقع القصير، حيث قد يكون الموت المحقق هو الخاتمة الحزينة وغير المرغوب بها للرحلة المجنونة. حاجز وراء حاجز، ووراءهما حواجز. على كل حاجز يقف عنصر أو عنصران، لا أكثر. يفسّر أحد العسكريين الأمر بأن عدد الجنود لا يقتصر على الحواجز، بل ينتشرون بين البساتين المحيطة على جانب الطريق، وهو أمر لم نلحظه خلال جولتنا، على أية حال.
لا بد من المرور بقرية الحسينية والحمرا والدمينة الشرقية ومركز الأرض قبل الوصول إلى قرية الضبعة، والتي تضم المطار الشهير المسمّى باسمها والمسيطر عليه من قبل مقاتلي المعارضة. القنص يشتعل يميناً، عند مرور أي سيارة باتجاه مطار الضبعة. ولكي يصل العسكريون إلى القصير لا بد من أن يعبروا الطريق المؤدي إلى مطار الضبعة أولاً، عبر حاجز البرغوث، فيجتازون الطريق مستترين بتغطية «سيارات الدوشكا»، والأسلحة الرشاشة الثقيلة.
العبور نحو قرية البرغوث يعتبر خطراً نوعاً ما، فالقنص لا يتوقف، ولا بد من العبور داخل ناقلة جنود، منعاً للإصابات. الغُبار الكثيف، والحر الشديد يبعث على الشعور بالإصابة. فلا بدّ من أن تتلمس كل عضو في جسدك على حدة، للتأكد من أنك ما زلتَ سالماً، وأن ما من قذيفة استهدفت العربة المعدنية فأدّت إلى اشتعالها بمن فيها، محاولاً إبعاد شبح الموت حرقاً في حرب لم تختَر الدخول فيها كطرف مقاتل، إنما ورّطتك مهنة المتاعب في أن تكون شاهداً وناقلاً لأحداث جدلية، لا حدّ أدنى لمعظم المشاركين فيها من احترام قوانين الحروب وتحييد الصحافيين عن القتل اليومي. وعليه، فإنك تعلم أن كلمة «صحافة» المكتوبة على خوذتك ودرعك ليست ذات قيمة لدى حاملي السلاح.
ولدى الوصول إلى «البرغوث»، يمكن متابعة السير بسيارة عادية إلى حيث تبدأ حدود مدينة القصير. اللافتة تعلن عن دخول المقصد. الرهبة تخيّم على كل شيء، بدءاً بالستائر التي تغطي عرض كل شارع مكشوف على قناصي المعارضة، مروراً بالوحشة المحيطة نتيجة فراغ المدينة من سكانها، وليس انتهاءً بأصوات الانفجارات الهائلة. القصير اليوم ليست ساحة معارك عادية، بل تبدو من أكثر المعارك بشاعة ورعباً. أصوات الانفجار تحيطك من كل جانب. مع لحظة وصولك، ستعيش حالة ذهول قد تدوم أكثر من 30 دقيقة. بعد ذلك ستعتاد أذناك الأصوات إلى درجة تفقد على إثرها الإحساس بالدمار المحيط والموت المخيّم على كل مكان. المدنيون هُنا قلّة، وتجاوبهم مع الإعلام أقل. لم يبقَ في المدينة سوى العجائز، فيما بقيت سيدتان مع أطفالهما في منزل داخل المدينة، وبالقرب من وحدات للجيش السوري. من المستحيل أن يتكلم أحد المدنيين ضد مسلّحي المعارضة بسوء، حيث سيتجنبون الحديث ضدهم. تظهر أشجار الجوز والزيتون وكروم العنب شهود عيان على هول المشهد. بعض أغصانها المتكسرة تستخدم متاريس وعلامات للطرق الفرعية، فيما خُضرتها البديعة تضفي غموضاً على الخوف الساكن وراء الصورة.
أخبار ترد إلى غرف عمليات الجيش حول «فزعة» (نصرة) 700 من مسلحي كتائب المعارضة في مدينة يبرود (لواء أحرار يبرود) نحو القصير، إثر إعلان تنسيقية القصير عن نداءات الاستغاثة التي يطلقها «مجاهدو القصير» إلى إخوانهم «أحرار القلمون». أخبار أُخرى عن خروج أكثر من 400 مسلّح من قرى حلب والرقة لنصرة «إخوانهم»، إثر إحباط حرس الحدود السورية محاولة تسلل مسلحين من منطقة وادي خالد اللبنانية. أخبار تثير ابتسامات ساخرة بين عناصر الجيش وضباطه، حيث تبدأ التعليقات: «ونحن بالانتظار». حرب لا رحمة فيها ولا هوادة، فالقنّاص يأخذ قضيته بجدّية، فيما الجيش يحصّن مواقعه بجدّية أكبر. هُنا، سيدلّك أحد العناصر على العربة الإسرائيلية التي تمت السيطرة عليها من قبل الجيش. عربةٌ أُخرى لمسلحي المعارضة سيطر عليها الجيش، لا بدّ من التوقف قليلاً أمام مصيرها المريع. معنويات الجنود هُنا مرتفعة، وخسائرهم البشرية قليلة. المعارضة تعتمد على القنص والقصف بالهاون والصواريخ محلية الصنع. إصابة قائد جبهة النصرة في القصير، وردان زهوري الملقب «أبو عمر»، تضفي معنويات إضافية للجنود. ساعات قليلة قبل أن تتوارد الأخبار من الحارة الشمالية عن مقتل أبي عمر. مصادر ميدانية تؤكد أن خروج أعداد من المسلحين إلى البويضة والضبعة قبل بدء الجيش عمليته العسكرية يجعل من المعارك في القريتين المذكورتين لا تقل أهمية عن معركة القصير القائمة اليوم.
مصادر من داخل المدينة تتوقع ما سمته «تطهير» القصير خلال جدول زمني أقصاه أسبوع، فيما أكّدت قيادات ميدانية أن 48 ساعة كفيلة بإسقاط المدينة مبدئياً، وأن ينعكس هذا السقوط سلباً على مسلحي المعارضة داخل مدينة حمص وما حولها من خلال إضعاف جبهاتهم المسلحة في الأحياء، ولا سيّما في ظل اعتمادهم على مدينة القصير في إيصال الأسلحة من لبنان. لعبة الجيش استخبارياً قامت على قاعدة ذكية تقوم على تأمين قرى شرق العاصي وصولاً إلى القصير، ما منع تسلل المسلحين والذخيرة من الحدود اللبنانية التي لطالما شكّلت السند الأكبر لمسلحي حمص. كما أن قصف المعارضة خلال الفترة الماضية لمنطقة الهرمل اللبنانية أدى إلى نشوء تخوّف لدى بعض الأوساط من إقامة إمارة سلفية جارة لقاعدة حزب الله الجماهيرية ضمن الأراضي اللبنانية، والتي ستعود بإشكاليات لا تنتهي عبر الحدود. كما لن تسلم القرى الشيعية المؤيدة التابعة للأراضي السورية من تبعات تأسيس مثل هذه الإمارة وتوتر الأجواء السورية طائفياً. ومن المنتظر أن تتبع معركة القصير مباشرة بتأمين مدينة حمص، ثم اتجاه المعارك شمالاً لاستعادة الرستن باعتبار القصير الخاصرة القوية لخط الإمدادات اللوجستية لبلدة الرستن. بالإضافة إلى أن نتائج سقوط القصير لن تسلم منها المعارضة المسلحة في القلمون من حيث فقدان التواصل بين عناصر المعارضة بين الجنوب والشمال، ما يضمن عدم قطع الأوتستراد الدولي الواصل دمشق بالشمال والساحل السوري مجدداً من قبل كتائب المعارضة، وقطع طرق الإمداد بين العاصمة والمحافظات الشمالية.
على سطح أحد المباني في المنطقة الغربية تُعرض خارطة توزع عسكري على جميع مناطق مدينة القصير. يقف ضباط من عدة كتائب تتبع للجيش السوري يستخدم فيها منظاراً مقرّباً يوضّح سير العمليات العسكرية والاشتباكات. هُنا سقطت قذيفة، فتصاعد الدخان الأبيض. وفي عمق المدينة، تتواصل الاشتباكات نحو الشمال. الرصاص لا يتوقف والضباط يبتسمون. في حين يبدو انضباط الجنود عالياً. يتتابع قصف المعارضة المضاد عبر قذائف الهاون والصواريخ محلية الصنع، بينما يتصاعد عنف الاشتباكات. تشير بيدك محاولاً تلمّس الجرح النازف في صدر المدينة الخارجة عن سيطرة الدولة منذ أكثر من سنة. لا تنسَ نفسك هُنا. ستوقظك سريعاً رصاصة قنّاص يحسبك على الجهة المعادية، مرّت من جانب وجهك فأخطأتك هذا اليوم، لحسن حظّك مؤقتاً.



تجمّع المعارضة في الحارة الشمالية

أطلق الجيش عملياته العسكرية من المناطق الخالية على مدخل القصير المتمثلة بسوق الهال والمنطقة الصناعية. تبدو سيطرة الجيش السوري واضحة على الحارة الشرقية بالكامل. انتشار كثيف لعناصره مع تغطية مدفعية للحارة الشمالية، فيما الجنوب يعلن عنه آمناً عسكرياً كحي الديابية، بالإضافة إلى تأمين المنطقة الغربية. الاشتباكات تندلع وتتوقف بين ساعة وأُخرى في وسط القصير المتصل بالحارة الشمالية، حيث يتجمّع مسلّحو المعارضة مع «بيئتهم الحاضنة». لا تقدّم للجيش في المنطقة الشمالية من القصير، حيث تعمل المدفعية على تأمين الوصول إليها قبل التوغل البرّي لعناصر الجيش على قاعدة «اعتماد خسائر أقل»، وهو أمرٌ لم يتبعه الجيش تكتيكاً خلال السنتين الماضيتين في مجمل عملياته. المنفذ الآمن الذي أعلن عنه الجيش لخروج المدنيين سالمين، قد كشفه قنّاصو المعارضة، ليبدو الخروج من خلاله مستحيلاً. محاولات بعض المسلحين الخروج عبره باءت بالفشل، لا سيّما إثر اعتقال بعضهم حين تنكّروا في لباس مدنيّ.