تفيد الأرقام الرسميّة، التي أعلنتها وزارة النفط السوريّة، عن خسائر في قطاع النفط بلغت، حتى شباط الماضي، 1042 مليون دولار، تشمل الأضرار في البنية التحتية للمنشآت النفطية، وقيمة كميات النفط والغاز المهدورة. ولا تغطّي هذه الأرقام مواقع نفطية عديدة، لم يتسنّ تقويم مقدار الخسائر فيها نتيجة الظروف الأمنية، كما تقول الوزارة.
ما لا تتحدّث عنه الوزارة، أو غيرها من العارفين بشؤون النفط السوري، أو من منظّري النظام، والناطقين باسمه، هو التقصير المزمن، على مدى عقود، في توظيف عائدات النفط، لتنمية مناطق استخراجه أولاً، ثمّ باقي المناطق السوريّة المهمّشة. كان من الممكن، بوجود تنمية حقيقية، أن يكون مشهد سوريا، ما بعد 15 آذار/ مارس 2011، مختلفاً عمّا هو عليه الآن. بماذا يفسّر مهووسو «المؤامرة الكونية»، توزّع خارطة الاحتجاجات، في بدايتها، على بلدات ومدن صغيرة ومتوسّطة، في أرياف المحافظات، بصورة رئيسيّة، كما في أحزمة البؤس العشوائيّة، حول مراكز المدن الكبرى، وجميعها أماكن لم تلحظها «الخطط الخمسيّة» لحكومات البعث المتعاقبة، وعانت تهميشاً، وافتقاراً مضطردين، تتحدّث نتائجه اليوم عن نفسها. إنّها المناطق عينها، التي بدأت فيها عسكرة الحراك الشعبي، واختُرِقت، قبل غيرها، بأموال النفط، وفتاوى الجهاد، و«المجاهدين».
يعود النفط السوري، مجدّداً، إلى الواجهة، من البوابة الأوروبية، ذلك أنّه، رغم تباين مواقف دول الاتحاد الأوروبي، حيال مسألة الاعتراف الدبلوماسي بالائتلاف السوري المعارض، وصِفته التمثيليّة، وحجم ذلك الاعتراف، فقد اتّفق وزراء خارجية الاتحاد، خلال اجتماعهم الأخير في لوكسمبورغ، على قرار يقضي بتخفيف العقوبات، المفروضة على سوريا منذ نحو عامين، بغية إفساح المجال أمام إمكانيّة شراء النفط السوري الخام من المعارضة السورية، ممثلةً بالائتلاف.
يظهر من هذا القرار، أنّ هناك رغبة أوروبّية في التخفّف من الأعباء الناجمة عن تقديم الدعم المادّي المباشر للمعارضة السورية، بحيث سيمكن للائتلاف الحصول على الموارد الماليّة اللازمة لتمويل نشاطاته، وميليشياته المسلّحة، من غير أن يقع القادة الأوروبيون في حرج المساءلة، أمام دافعي الضرائب، بسبب التورّط في سوريا. من هذه الزاوية، فإنّ حديث كاثرين أشتون، مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، عن «الوضع الإنساني المقلق للغاية»، وكذلك قول وزير الخارجية الألماني، غيدو فيسترفيلي، «إن القرار يهدف إلى تمكين المعارضة من الحصول على موارد مالية ستستخدم لتغطية الحاجات الأساسية للسكان المدنيين»، في سياق تبرير القرار أمام وسائل الإعلام، لا يعدو أن يكون من باب «الدبلوماسيّة».
وعلى سيرة الدبلوماسيّة، لم يخلُ تعامل الأوروبّيين، أو غيرهم من المتدخلين الخارجيين، على مدى عامين من المأساة السوريّة، من انتهاكٍ لأبسط المبادئ، والقواعد الدبلوماسيّة، (تعدّ اتفاقيّة فيينا، المؤرّخة في 18 نيسان/ أبريل 1961 مرجعها الأساس)، التي تفرض على الدول أن تقف موقف المتحفّظ، عند قيام ثورة داخليّة في إحدى الدول، فتبقى على علاقاتها مع الحكومة القائمة، دون أن يمنعها ذلك من التعامل مع ممثلي الثوار، على أنّ ذلك التعامل لا يكتسي صفةً دبلوماسيّة. وفي حال تطوّرت الثورة إلى حرب أهليّة فإنّ الاعتراف بالأطراف يكون بصفة «المحاربين»، وهذا يفرض على الدول أن تحافظ على الحياد في معاملتها للمتحاربين، فلا تمارس إزاءهما أي تدخّل، وتحرص على وضعهما على قدم المساواة. خلافاً لذلك كلّه، ما يحصل في «الملفّ السوري»، هذه الأيام، من انحيازات صريحة، ودعم لهذا الطرف أو ذاك. الخاسر الوحيد هو الشعب السوري، الذي يجري كل هذا باسمه!
غير أنّ القرار الاتحاد الأوروبي الأخير، يشكّل فرصةً، لمن يشاء من أعضائه، لـ«اعتراف فعلي»، وليس دبلوماسي، بالائتلاف السوري المعارض، احتراماً للقواعد الدبلوماسيّة، إذ إنّ ذلك ممكن من خلال التعاقد التجاري. في كلّ الأحوال، فإنّ المعلومات الواردة من بعض مناطق انتشار مقاتلي المعارضة، شرق سوريا، والتي من المفترض أنّها المعنيّة بقرار رفع الحظر على استيراد النفط السوري الخام منها، تشير إلى معطيات على الأرض، لن تجعل من السهل على الائتلاف الاستفادة من الخطوة الأوروبية.
تلك المناطق، وإن كانت خارج سيطرة قوّات النظام، لكن من الصعوبة بمكان تحديد من يسيطر عليها بالفعل، على وجه الدقّة. يدور الحديث عن معارك للسيطرة على النفط هناك، ولا شكّ أنّها مرشّحة للمزيد من التصعيد، بعد القرار الأوروبي، الذي سيزيد من دوافع الصراع للسيطرة على آبار النفط، باعتباره سيسمح للشركات الأوروبية باستئناف الاستثمار في البنية التحتية النفطية، وبيع معدات ذات صلة بالقطاع النفطي، بالتنسيق مع المعارضة. فقد ذكرت وكالات الأنباء العالميّة، نقلاً عن «المرصد السوري لحقوق الإنسان»، أن «نزاعاً على شاحنة نفط مسروقة، في بلدة المسرب، في محافظة دير الزور المتاخمة للعراق، أدى إلى اندلاع اشتباكات بين رجال القبائل ومقاتلين من جبهة النصرة المرتبطة بتنظيم القاعدة، ما أسفر عن سقوط 37 قتيلاً». وأفاد المرصد أنّ «القتال الذي بدأ في أواخر آذار/ مارس واستمر عشرة أيام يأتي في إطار صراع أوسع بين الجماعات القبلية ومقاتلي جبهة النصرة».
وفي وقت تقوم فيه جهات محلّية، بسرقة النفط وبيعه في السوق السوداء، منذ بداية تفجّر الأوضاع الأمنيّة شرق البلاد، تجدر الإشارة إلى قيام «المؤسسة العامة للنفط»، التابعة للحكومة السوريّة، بإبرام عقود حماية مع السكان المحليين، في وقت سابق، ضمن خطوات اتّخذتها للتعامل مع حوادث الاعتداء على منشآتها النفطيّة، وهو ما قد يُفسّر تلقّي مقاتلي العشائر لمساعدة من النظام، الذي أرسل لهم السلاح والذخيرة، وفق ما ذكر المرصد، أثناء معاركهم ضدّ جبهة النصرة.
كل ذلك يثير تساؤلات عن الكيفيّة التي سيتعامل بها الأوروبّيون مع تجّار النفط الجدد. ما هي الآليات الكفيلة بضمان استخدام أموال النفط «لتغطية الحاجات الأساسية للسكان المدنيين»، وهي ما يُفترض أن تكون الغاية الأساسيّة من رفع الحظر، على حدّ زعم وزير الخارجية الألماني، وليس تمويل المزيد من أعمال العنف؟ وهل يهتمّ المعنيون بهذا القرار بمعالجة الكارثة البيئيّة، الناتجة عن التعديات على الآبار النفطية، والتعامل العشوائي معها، بما سبّبه ذلك من تأثيرات سلبيّة على أشكال الحياة كافّة، وخصوصاً الصحة العامّة، وتلوث الهواء والماء والتربة الزراعية؟
وأخيراً، ماذا عن شراء النفط، أو استثماره، في مناطق يسيطر عليها مقاتلو النصرة القاعديّون، أم أنّ تفاهمات معيّنة، بينهم وبين غيرهم من المقاتلين، ستتيح لهم جني الأرباح عن طريق وسطاء؟ على الأرجح أنّ وسطاء من هذا النّوع لن يكونوا من خارج الائتلاف المعارض، أليس هو اليوم، بفضل القرار الأوروبي، الممثل النفطي الوحيد للشعب السوري!