يبدأ المؤلف خوري مقدمة كتابه «القبيلة والدولة» بهذه العبارة: «ما هذا الكتاب عن القبيلة والدولة في البحرين سوى محاولة متواضعة للوقوف على المتغيرات المستجدة في نظام السلطة والحكم خلال القرنين الماضيين». وكان يقصد بالقرنين التاسع عشر والعشرين، لأنه كتب هذا المؤلف عام 1975 تقريباً.
لكن منذ ذاك التاريخ حتى اليوم، ومع أنها مجرد حوالى 40 سنة من عمر الزمن البحريني، فإنها قد جلبت على تلك الجزر الصغيرة الآمنة الوادعة في الخليج وعلى سكانها، أضعاف ما جره عليها القرن ونصف القرن الماضيين. ليس من باب الويلات والحروب، بل من باب التغيير الديموغرافي والاجتماعي، وحتى البيئي، الذي فعلته القبيلة مستغلة صفة الدولة التي أسبغتها عليها سلطات الحماية البريطانية، منذ ما عُرف في تاريخ البحرين بإصلاحات (الميجور ديلي) بعد عام 1920، ثم التغييرات التي قادها المستشار (تشارلز بلجريف) من 1926 حتى رحيله عام 1957، ورسخت جذور الدولة التي تلقفها آل خليفة، معتقدين أنهم ــ بطبعهم القبلي البدوي ــ يستطيعون إدارتها قهراً، أو قسراً، أو اضطهاداً تارة، أو ترغيباً وترهيباً بدعم القوي البريطانية، تارة أخرى.
هذه السنوات الأربعون أضافت تغييرات عديدة أثرت في المجتمع بتماسكه وعفويته وصفائه، بتلوث آخر من نوع جديد لم يكتب عنه خوري آنذاك لأنه لم يلحظه كليا، وهو التغيير الديموغرافي بالتجنيس السياسي، ومحاولات طمس الهوية الوطنية الأصيلة، وتشويه تاريخ الوطن وحصره في فئة قبلية طارئة واحدة تمثل عنوان حضارة الجزر ولا أحد سواها.
يبحث الكتاب في معظم فصوله، في تلك العلاقة غير الطبيعية التي نشأت بين القرية البحرانية بمدلول الكلمة اللغوي والاجتماعي للسكان الأصليين لجزر البحرين، وبما أفرزته على مدى قرون سابقة؛ والمدينة الحديثة التي أنشأتها القبائل الغازية للجزر في نهاية القرن الثامن عشر، وما تبعتها من تنظيمات إدارية انكليزية الصنع والتنفيذ على أرض الجزر لتثبيت حكم القبائل الخارجية ضد النسيج الاجتماعي الديني للقرية البحرانية. ذلك أن القبلي البدوي الآتي من صحراء الجذب والقحط، لا يمكنه إنشاء قرية زراعية، أو بحرية يعتاش منها، ولذا فضل أن يكون عالة على حياة القرى باعتماده أساسا على سياسة النهب منها.
تحولت الحالة في البحرين طوال القرن التاسع عشر حتى العقد الأول من القرن العشرين، بالنسبة إلى القبائل الغازية، من حالة سلب ونهب بمفهوم الصحراء؛ إلى سلب ونهب في المجتمع القروي البحراني، وفي ثرواته من الصيد البحري وبالذات اللؤلؤ، دون العمل وتعلم المهنية في الكسب، حتى في مجال صيد اللؤلؤ. وهذا ما رفضه المجتمع البحراني في القرى الصغيرة الغنية المتناثرة على رقعة الجزر، لكن هذا المجتمع القروي في أساسه وتكوينه النفسي والاجتماعي ليس مجتمعا معسكَراً بطبعه، ولا يقوم أساساً على العقيدة القتالية ولا يتبناها لأسباب دينية عقيدية مذهبية خاصة. لذا فهو لم يتحول بين ليلة وضحاها إلى مجتمع مقاتل متوحد في عقيدته القتالية، لأنه في الأصل، برغم تجانسه المذهبي تقريباً، فهو مفكك في وحدة المواجهة وتبرير تلك المواجهة مع العدو الغازي من الخارج مهما كانت أنواع تلك التبريرات.
هذا الأمر يمكن ملاحظته طوال تاريخ البحرين القديم، والإسلامي، والحديث. فحتى حضارة أو مملكة دلمون الذائعة الصيت؛ لم نسمع عنها عند أي باحث، أو مؤرخ، أو آثاري، بأنها كانت مملكة حربية غازية أو مهاجمة لقوى خارجية إقليمية أو دولية، أو حتى صاحبة عقيدة حرب نظامية أو حرب العصابات أو مقاومة مسلحة ضد أى غزو للجزر. وهذا ما ساعد كافة القوى الخارجية، ومنها القبائل الوافدة من شبه الجزيرة العربية في حركة العتوب منذ عام 1783 التي يُطلق عليها المؤلف لفظة «احتلال آل خليفة»، أن تنجح في التغلغل والسيطرة النارية على الجزر دون وجود أو بروز مقاومة حقيقية فعالة على الأرض ضدها.
أيضا هذا ما درسه الإنكليز وفطنوا إليه، وبدهائهم وقفوا بجانب القوى القبلية الغازية المقاتلة ودعموها بالسلاح في أكثر الأحيان للسيطرة الدائمة على جزر البحرين، بل دافعوا عن هذا الوجود الطارئ القبلي بأن عملوا على تثبيته لأسرة آل خليفة ببعض التنظيمات الإدارية الحديثة منذ عهد (ديلي)، وإن كانت بداية لم تعجب هذه الأسرة لأن ذلك أشعرها بأنها يجب أن تتحول من سياسة النهب والسلب غير المنظم إلى نوع من التقشف في ذلك السلب، وترك بعض الثروات لإدارة الدولة الحديثة، التي ستدر موارد أكثر على الأسرة نفسها.
تلك التنظيمات التي سرعان ما حولتها رغبة القبيلة إلى نوع آخر حديث لا يخلو من السلب والنهب. حتى اليوم ضمن عقيدة الغزو والفتح البدوية، لم تستطع كل تنظيمات الإنكليز ــ منذ (ديلي) ومروراً بـ(بلجريف) وغيرهما من المعتمدين السياسيين حتى الاستقلال الشكلي عام 1971 ــ من مسح كل ترسبات عقيدة البدوي بنهب مال غيره، فهي أصيلة في كيانه، وتكوينه، وعقليته. وهذا ما أوجد إشكالية حكم القبيلة في صورة الدولة التي لم يسمح لها بأن تنضج بكل مكوناتها الحضارية الحديثة من ديموقراطية، وحرية الرأي، وحقوق الإنسان، وبرلمان منتخب، والاعتراف بالآخر الذي لا يدخل في نسيجها القبلي أو لا يعترف بذلك النسيج الهش أساساً اقتصادياً، لكونه قائما على سياسة النهب والسلب بالطرق الحديثة في ما يُطلق عليه (الفساد الحكومي). بل تحولت إلى نوع من الدول القائمة على احتكار السلطة الدائم من القبيلة الواحدة، وتحويل المجتمع إلى مجموعة من المفارقات والتناقضات بين مختلف فئاته الاجتماعية.
يمكن زيادة مثل هذه المفارقات وفق الحاجة إليها، حتى إن وصلت لتشطير المجتمع عرقياً، ومذهبياً، واجتماعياً، من أجل بقاء قبيلة الدولة المصطنعة. فهل هي قبيلة في صورة دولة، أم دولة في صورة القبيلة؟
لم يكن هدف «مركز أوال» من إعادة طبع ونشر كتاب «القبيلة والدولة» بعد حوالى 32 عاماً من صدور طبعته الأولى، مجرد إضافة رقم طبعة جديدة للكتاب الذي أضحى تحت إلحاح وسؤال القراء خلال المدة الأخيرة بهدف الحصول على نسخ منه؛ بل أعدنا قراءة متأنية له من جديد، ليس بهدف صياغة مادته أو تغيير محتواها، فهذا من شأن وحقوق المؤلف فقط. بل جرى إلباس الكتاب ثوباً تحديثياً في معلوماته بعد مضي كل تلك السنوات وما ران على المجتمع البحريني خلالها من تغييرات جمة متسارعة، غيّرت تماماً أو حذفت بعض القضايا التي كانت مؤثرة في الساحة السياسية في حقبة السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين، ولم تعد كذلك الآن، وخصوصاً ما يتعلق منها بالنخب السياسية والمثقفة ودرها في مجتمع تلك المرحلة.
كما صُوّب ما علق بمتن الكتاب وترجمته منذ الطبعة الأولى؛ من أخطاء تاريخية ومطبعية ولغوية بعضها لافت للنظر، وذلك إما عن طريق مبضع الجراح اللغوي أو الثقافي داخل النص، وإما بمعالجات خارجية، بإضافة هوامش على كل فصل لتوضيح ولتصحيح ولتحديث كل الإحصاءات والمصطلحات، وبعض الترجمات غير الدقيقة للنص الأصل، والمسميات، والمواقع، والأحداث، التي وقعت على أرض جزر البحرين ووردت ضمن النص الأصل وأُهملت منذ الصدور الأول، بالإضافة إلى وضع بعض المعلومات المشوشة أو القديمة في عدد من الجداول، والرسوم البيانية، والهوامش الواردة في المتن، على السكة الصحيحة ضمن مسار الكتاب.
حرصنا أيضاً على توضيح بعض الملابسات في الرأي التي أوردها المؤلف تجاه بعض نواحي المجتمع البحراني وفعالياته الدينية العقيدية، دون تحريف رأيه الخاص، عن طريق وضع هوامش توضيحية لأي وجهة نظر أو رأي، كان في حاجة، من واقع علاقتنا ومعرفتنا بمجتمعنا، والمؤثرات الداخلية والخارجية التي أدت، ولا تزال، دوراً مهماً وحيوياً في مسيرته التاريخية.
أخيراً، نشرنا في هذه الطبعة ترجمة للفصل الخاص بتجربة المؤلف في العمل الميداني بالبحرين في السبعينيات، وقد نشره في سيرته الذاتية (دعوة للضحك: عالم انتربولوجيا لبناني في العالم العربي) وقد طبع الكتاب باللغة الإنكليزية بعد وفاة المؤلف في 2003.

* «مركز أوال للدراسات والتوثيق» 14 شباط 2016