منذ مدة ليست بالقليلة حدث أن دار بيني وبين أحد الأصدقاء نقاش حول من الشهيد، كنت اعتقد مع بدء الحوار أننا نتحدث عن الشهيد بالمعنى الوطني، لكن صديقي أخذ النقاش لتعريف الشهيد بالمعنى الديني. وهنا كانت المشكلة، فبدا لي أن البعض يصنف الشهداء، فمن كان من دين معين هو شهيد، وسوى ذلك ليس بشهيد، كونه يقاتل في سبيل الوطن.
كثيراً ما قرأت في الأدب الفلسطيني واللبناني والمصري، عن تلك المرحلة الجميلة من الثورة الفلسطينية في الستينيات والسبعينيات ومطلع الثمانينيات حتى نهاية الانتفاضة الأولى. في تلك المرحلة الطويلة لم يكن يعرف دين الفدائي أو طفل الحجارة، فقد كان الإيمان بالله جزء منه الانتماء لأرض الأنبياء فلسطين، والايمان كان ما كان، ليس أكثر من عقيدة تشجعك وتزرع في المقاتل العناد لتحقيق هدفه بالاستشهاد أو النصر...
المرحلة السابقة امتازت بأحلام الفدائيين الأوائل، الملثم كان رمزاً، ولم تكن العصبة فوق رأسه معياراً لنضاله، أو على الأقل هذا ما أعتقده، وما سمعته شفاهة من ذاكرة الناس...
وأتذكر حديثاً لأحد الفدائيين، التقيته في مخيم اليرموك، أخبرني أولاً عن استمراره في كتابة رسالة لأمه وحبيبته، في معسكر لأحد فصائل اليسار الفلسطيني، حين بدأ القصف. ليكمل حديثه عن أكراد كثر كانوا في صفوف المقاتلين الفلسطينيين، بعضهم لم يكن يعرف كلمة عربية واحدة إلا أن معظمهم بحسب الفدائي ذاته وبعض الروايات الأخرى، استشهدوا ودفنوا في لبنان مع الفلسطينيين.
وربما هذه الحوادث وغيرها وانضواء فئات مختلفة في النضال لأجل فلسطين، سببها فقط أن فلسطين ليست أرضاً مسلوبة فقط، إنما أبرز قضايا العالم وضوحاً في مسألة الحق.
ما لا تستطع فعله السياسة حتى اليوم، منع الناس من الخروج في تشييع شهيد ما، وحتى من دون السؤال عن تصنيفه... وهذا ما عشته وتربيت عليه سنيناً في مخيم اليرموك، وهي الحال في بقية المخيمات، وفي الداخل الفلسطيني المحتل.
أتذكر تشييع الشهيد فتحي الشقاقي، أتذكر تماماً أن المخيم خرج بالآلاف، وأتذكر النعش الذي أخرج من السيارة وحمل على الأكتاف، كما هو التقليد في تشييع الشهداء، أتذكر الشقاقي حين أتذكر تشييع شهداء العودة وكيف خرج الآلاف أيضاً لتشييعهم.
الاحتلال لم يفرق أبداً بين الفلسطينيين في إرهابه ضدهم، فاغتال كمال ناصر الرجل المسيحي إلى جانب كمال عدوان وأبو يوسف النجار، في ما عرف لاحقاً بعملية فردان في بيروت، ولكن لجمالية تلك المرحلة، دفن القائد الشهيد كمال ناصر إلى جوار الشهيد غسان كنفاني.
الشهيد هو الشهيد، ولا فرق بين واحد وآخر، فلا تفرق الأرض بينهم... وهم من سقوها وجعلوا شجرها يراقص الريح ليسكروا نشوة بحبها اللامنتهي له..
لا أقدم وصية لنفسي ولا أقدم وصية لأحد. أقول لأقول، كي أكون أمينا مع نفسي. من قضى في سبيل قضيته فقد فاز ونال، إن كان استشهد في سبيل الله، أو في سبيل الأرض.
الحديث الذي دار بيني وبين صديقي لم يخلص إلى خصام، لكنه انتهى فعلاً إلى نتيجة لا أريدها لكنها واقع، لكم فلسطينكم ولي فلسطيني التي هي لكل من يحبها وينتمي إليها كائناً من كان...