على خلاف المحاولات السابقة للتطبيع بين سوريا وتركيا، تبدو المساعي هذه المرّة أكثر جديّة، في ظل المتغيرات الميدانية والسياسية العديدة التي خلقت ظروفاً مؤاتية للمضي قدماً على هذا الطريق، الأمر الذي التقطته روسيا، لتكثّف نشاطها على المستويين الميداني والسياسي، في وقت أظهرت فيه دمشق وأنقرة مرونة كبيرة زادت من تفاؤل موسكو. وفي أول ردة فعل سوريّة معلنة حيال جهود الوساطة التي أُعلن عنها أخيراً، سواء من الجانب العراقي، أو الروسي الذي فشلت محاولاته السابقة - في ظل محاولة تركيا الالتفاف على مطالب دمشق بانسحاب القوات التركية غير الشرعية من الأراضي السورية باعتباره الهدف النهائي لأي حوار -، أكد الرئيس السوري، بشار الأسد، الذي استقبل المبعوث الخاص للرئيس الروسي، ألكسندر لافرنتييف، انفتاح دمشق على جميع المبادرات المستندة إلى سيادة الدولة السورية على كامل أراضيها من جهة، ومحاربة كل أشكال الإرهاب وتنظيماته من جهة أخرى، معتبراً أن تلك المبادرات تعكس إرادة الدول المعنية بها لإحلال الاستقرار في سوريا والمنطقة عموماً، وفق بيان الرئاسة السورية. وتجيء زيارة المبعوث الروسي إلى دمشق ولقاؤه الأسد، بالتزامن مع افتتاح أول معبر بري يربط بين مناطق سيطرة الحكومة السورية ومناطق سيطرة الفصائل الموالية لتركيا، في مدينة الباب في ريف حلب (معبر أبو الزندين)، بعد مشاورات روسية - تركية مكثفة، خلال جولة أجراها وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، شملت قطر التي احتضنت فعاليات الحوار الخليجي – التركي الاستراتيجي واجتماع وزراء خارجية دول «مجلس التعاون الخليجي»، وروسيا، حيث التقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. كما تجيء بعد سلسلة لقاءات أمنية وعسكرية روسية – تركية في مدينتي الباب في ريف حلب وتل أبيض في ريف الرقة، تبعها دخول تعزيزات تركية إلى نقاط انتشار الجيش التركي في ريفي إدلب الجنوبي وحلب الغربي.
وكان سبق الترحيب الذي أعلن عنه الرئيس السوري بمبادرات التطبيع بين بلاده وتركيا، تلميحات وزير الخارجية السوري، فيصل المقداد، إلى تفهم سوري للأوضاع المعقّدة في الشمال، وقبوله بإعلان تركيا نيتها الانسحاب من سوريا، ما يعني وضع جدول زمني واضح لهذا الانسحاب، بشكل يمنع حدوث فراغ أمني يمكن أن تستغله الفصائل المنتشرة لإحداث الفوضى. أيضاً، أعقب الترحيب إعلان تركي عن حرص أنقرة على وحدة الأراضي السورية، واستعدادها لسحب قواتها فور تأمين الحدود، الأمر الذي يستلزم انتشار قوات حرس حدود سورية على الشريط الحدودي مع تركيا. ويشكل ذلك بمجمله ملامح خطة التطبيع المكوّنة من مراحل عديدة، تفتح الباب أمام استعادة دمشق سيطرتها على المناطق الحدودية وضبطها، وتأهيل البنى التحتية في سوريا لاستعادة اللاجئين السوريين في تركيا، والذين تنتظر أنقرة بفارغ الصبر التخلص من عبئهم.
لا تزال الخطوات الميدانية الأخيرة تواجه مطبات عديدة، أبرزها المحاولات الأميركية لمنع أي تغيير للأوضاع


وإذ ظهرت العودة التركية إلى مغازلة دمشق، بشكل واضح، عبر تصريحات عدد من المسؤولين الأتراك، فهي جاءت بالتوازي مع محاولة الأكراد الذين يقودون «الإدارة الذاتية» بدعم أميركي، إجراء انتخابات اعتبرت أنقرة أنها تهدف إلى «ترسيخ سلطة الأمر الواقع»، الأمر الذي وسّع أرضية الحوار السوري – التركي، بعد إعلان رئيس الوزراء العراقي، محمد شياع السوداني، توسط بلاده بين الطرفين. ويأتي ذلك بعد أن وقّع العراق اتفاقية أمنية مع تركيا، ما يمكن أن يفسّر الدعوات الأخيرة لوزير الخارجية التركي إلى توحيد جهود الحكومة السورية والمعارضة في محاربة الأكراد، الأمر الذي عمّق من حالة الضبابية و«عدم اليقين» التي تعيشها المعارضة السورية والفصائل السورية التابعة لأنقرة حول مستقبلها في ظل مساعي الانفتاح القائمة.
وفي السياق نفسه، يبدو الدور الذي تلعبه دول الخليج، بقيادة الإمارات التي يزورها المقداد، والسعودية، محورياً، لما يمثله التطبيع السوري – التركي من نقطة أساسية في فتح الطرق أمام البضائع المستوردة والمورّدة من دول الخليج نحو أوروبا، عبر سوريا وتركيا. وعليه، كانت بدأت الأوساط السياسية تشير إلى ذلك على أنه «صفقة مربحة لجميع الأطراف»، أعطت دفعة لجهود التطبيع التي تقودها روسيا، عبر بنود «المبادرة العربية» التي خصّت جهود إعادة الإعمار و«مشاريع التعافي المبكر» ببند واضح، التقطته الأمم المتحدة وأسّست بناءً عليه صندوقاً خاصّاً مقره دمشق، في محاولة لبدء مسار جديد في حل الأزمة السورية بعد تعثّر المسارات السابقة بما فيها مسار «اللجنة الدستورية» المجمّد، وخطة «خطوة مقابل خطوة» التي حاول المبعوث الأممي إلى سوريا، غير بيدرسن، تسويقها. ومن شأن ما تقدّم أن يفسر التصريحات الأخيرة لنائبة مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة الخاص إلى سوريا، نجاة رشدي، حول «خطة جديدة لنهج شامل» بشأن العملية السياسية في هذا البلد.
غير أن الخطوات الميدانية الأخيرة، وعلى رأسها فتح معبر «أبو الزندين»، إلى جانب استمرار جهود الوساطة الروسية، والمرونة التي أظهرها الطرفان السوري والتركي، لا تزال تواجه مطبات عديدة، أبرزها المحاولات الأميركية المستمرة لمنع أي تغيير للأوضاع الراهنة في سوريا، نظراً إلى ما تمثله هذه التغييرات من مخاطر كبيرة على الوجود الأميركي غير الشرعي. وعليه، تبدو أنقرة أمام اختبار فعلي لمدى جديّتها، بعد أن رمت تصريحات الرئيس السوري الأخيرة الكرة في الملعب التركي.