بغداد | تتعرّض المحكمة الاتحادية العليا في العراق، وهي أعلى سلطة قضائية في البلاد، لهجوم واسع من عدد من الأحزاب السياسية الكردية وبعض الشخصيات السنية المتضرّرة من قراراتها، ولا سيما تلك الخاصة بمنح الحكومة الاتحادية صلاحية توطين رواتب موظفي إقليم كردستان في مصارف بغداد من دون الرجوع إلى إدارة الإقليم، وقبل ذلك الحكم الذي يؤكد سيطرة بغداد على إدارة النفط في كردستان وتصديره. واشتد الهجوم بعد انضمام النائب السابق والسياسي السني، مشعان الجبوري، إليه، واتهامه رئيس المحكمة، جاسم العميري، بتهديده بإبطال عضويته قبل سنتين، وهو ما حصل بالفعل.وبدأ الهجوم على المحكمة مع إعلان عضوها الكردي، عبد الرحمن زيباري، استقالته قبل أيام، احتجاجاً على قراراتها الأخيرة، واعتباره أنها «ابتعدت عن أسس ومبادئ النظام الاتحادي عبر توسيع نطاق الصلاحيات الحصرية للسلطات الاتحادية على حساب السلطات الممنوحة للأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم». لكن جديد الهجوم كان اتهام الجبوري، في مقابلة متلفزة، القاضي العميري، بأنه هدّده عندما كان عضواً في مجلس النواب بإبطال عضويته في حال مشاركته في التحالف الثلاثي بين «التيار الصدري» و«الحزب الديموقراطي الكردستاني» وتحالف حزبي «تقدّم» و«السيادة»، والذي كان يهدف إلى تشكيل حكومة تستبعد القوى الشيعية الأخرى. وانتشرت تصريحات الجبوري كالنار في الهشيم، كونها استهدفت المحكمة التي من المفترض أن تتميّز باستقلاليتها وابتعادها عن الخلافات السياسية.
وكانت المحكمة الاتحادية ألغت، في أيار 2022، عضوية الجبوري في مجلس النواب، بتهمة تزوير شهادته الثانوية في سوريا. وعقب تصريحه الأخير، أصدرت المحكمة بياناً قالت فيه إنها «تتعرّض لهجمة معروفة الأهداف». وأكدت أن مهمتها «هي التطبيق الصحيح للدستور العراقي بما يضمن وحدة العراق، وبناء نظام جمهوري نيابي برلماني ديموقراطي، يقوم على أساس التداول السلمي للسلطة، والتوزيع العادل للثروات، إضافة إلى الأسس الدستورية الأخرى، لغرض بناء الدولة بالشكل الذي يحقّق إشاعة العدل ورفع الظلم، والحفاظ على الأموال العامة وتوظيفها لمصلحة الشعب، وتحقيق السيادة للقانون».
«الكردستاني» يتهم المحكمة بالانحياز إلى أحزاب في بغداد والعمل وفقاً لرغباتها


وانشطرت أراء السياسيين والناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي بين فريق مؤيد لقرارات المحكمة الاتحادية وعملها، ويطالب بعدم المساس بسمعتها، وبين مشكّكين في تحركاتها الأخيرة، وداعين إلى إجراء تحقيق عادل بحقّ رئيسها بعد اتهامات الجبوري له. ويدافع القيادي في «الإطار التنسيقي» علي الفتلاوي، عن المحكمة، قائلاً إن «قراراتها عادلة ومنصفة تماماً. ومحاولات تلطيخ سمعتها من قبل حكومة وقيادات إقليم كردستان، جاءت بعدما قضت المحكمة بعدم دستورية مقاعد الكوتا في البرلمان الكردي، وأيضاً توطين رواتب موظفي الإقليم، وهي كلها قرارات سليمة ولا غبار عليها». ويرى الفتلاوي، في تصريح إلى «الأخبار»، أن «بعض السياسيين استغلّوا الأزمة الحالية لتأجيج الوضع وحرف الأنظار عن قضايا مهمة في البلاد»، معتبراً أن «المحكمة الاتحادية تقف على مسافة واحدة من الجميع ولا تنحاز إلى أي طرف شيعي أو سني أو كردي، ووجودها يهدف إلى تحقيق التوازن بين الجميع، لكن هذه الحملة ممنهجة من جهات داخلية وخارجية». ويؤكد أن قوى «التنسيقي» داعمة لقرارات المحكمة وملتزمة بها، ومؤيدة للقاضي العميري كونه يمثل أعلى سلطة في البلاد و«ليست لديه مصلحة مع أحد».
وفي المقابل، يعتقد القيادي في «الحزب الديموقراطي الكردستاني»، ريبين سلام، أن «موقف الإقليم كان منذ البداية أن هذه المحكمة غير منصفة وقراراتها منحازة إلى جهات معينة». ويشير سلام، في تصريح إلى «الأخبار»، إلى أن «المحكمة الاتحادية شُكلت في زمن الحاكم المدني الأميركي، بول بريمر، عام 2005، وعليها إشكاليات كبيرة، وأفعالها غير دستورية وتشكيلتها غير دستورية، وبالتالي قرارتها غير دستورية». ويدعو إلى «وقف هذه القرارات، ثم وضع حدّاً لهذه المحكمة التي انسحب القاضي الكردي منها لأنه عجز عن التأثير في قراراتها، وخاصة ما يتعلّق بتعديل قانون الانتخابات البرلمانية للإقليم الصادر عام 1992، أي قبل ولادة هذا القضاء أصلاً». ويعتبر أن «المحكمة تعمل بالضد من إرادة إقليم كردستان، وهي أصدرت بحقنا عقوبات وليس قرارات. وهي بالطبع منحازة إلى أحزاب في بغداد وتعمل لمصلحتها ووفقاً لرغباتها، فضلاً عن تداخلها مع الصلاحيات الدستورية للسلطات الأخرى».
أما المحلل السياسي، علي الغزي، فيرى أنّ «الحملة على المحكمة الاتحادية لها دلالات خطيرة على النظام العراقي، لأنّ الجميع يعوّل على استقلالية القضاء العراقي، فإذا صحّت أقوال النائب السابق (الجبوري) فهذه كارثة قد تجعلنا جميعاً على المحك». ويعتقد أنّ «هجمة الأحزاب الكردية غير مبررة، ومعلومة الأهداف، كونها رد فعل بعد قرارات الاتحادية في ما يخص الرواتب والنفط والانتخابات، وربما سنشهد دعاوى جديدة». ويعتبر أن «حملة التسقيط لا تقف وراءها فقط جهات داخلية، وإنما حتى خارجية لغرض تفتيت قوة القضاء الذي اعتقد أنه السلطة الوحيدة التي لم تتأثر بالسياسة، ولا زال الوتد الأقوى للحفاظ على هيبة الدستور وحماية السيادة العراقية».