تتصرّف أنظمة الخليج جميعها الآن كمن يواجه خطراً محدقاً، وذلك يستدعي منها تنحية الخلافات جانباً
الأنظمة الخليجية كانت إلى ما قبل «طوفان الأقصى» تعتاش على التنافس في ما بينها، والذي يقوم على مَن يخدم بشكل أفضل الراعي والحامي الأميركي، ويقنعه بالتالي بأن يعطيه دوراً أكبر من دور غيره، وهنا أيضاً لا استثناء. لكنها تتصرّف الآن جميعها كمَن يواجه خطراً محدقاً، وذلك يستدعي منها تنحية الخلافات جانباً، وإن مؤقتاً. كما ثمّة ملاحظة يفيد إيرادها في هذا السياق، وهي أن الهجمات الإعلامية المتبادلة بين تلك الدول غائبة، كما أن تبادل الزيارات بين القادة صار أسهل وأسرع وتيرة بعد سنوات من شبه القطيعة على صعد ثنائية وجماعية. ولعلّ قمة «المناخ» في دبي، ظهّرت المشهد المشار إليه تماماً، فيما حضور الرئيس الإسرائيلي كان تعبيراً عن الوجهة التي يمكن أن يختارها حكّام الدول الخليجية، إذا ما حُشروا في الاختيار. فمؤسّسات الحكم بطبيعتها وتاريخها، تقوم على التراضي القبلي، أو التنافس القبلي، لا على القضايا السياسية التي يمكن أن تُقاس بها الشعبية، كما هي حال القضية الفلسطينية التي تملك المؤسسات المشار إليها حساسية خاصة وأيضاً تاريخية تجاهها، على اعتبار أنه في كلّ مرة تتصدّر فيها القضية المشهد، يحصل خلل بنيوي في أداء الأنظمة.
لو لم يكن الأمر كما تَقدّم، لما وجد أمير قطر، تميم بن حمد، نفسه يصافح هرتسوغ في دبي، وهو في الوقت نفسه يستضيف قيادة حركة «حماس»، وقناة «الجزيرة» المملوكة لبلاده تناصر القضية الفلسطينية وتنقل معاناة أهل غزة بأكثر الصور وضوحاً. هذه الازدواجية مفهومة، ولا حاجة إلى التبصّر كثيراً لمعرفة أن الدوحة ما كان يمكنها أن تلعب هذا الدور لولا موافقة واشنطن عليه، بل لولا دعمها إياه، بما في ذلك استضافة «حماس» وغيرها من التنظيمات المناهضة للأميركيين، علماً أن الدور المذكور يفترض بذاته إقامة نوع من العلاقة مع إسرائيل. لا يعني هذا أن دول الخليج فقدت الحيلة تماماً تجاه ما يحدث، لأنه، في هذه الحالة، تكون قد انتهت، فهي بالتكوين تملك غريزة البقاء، وكلّ ما تفعله، تفعله انطلاقاً منها. ومن هنا، ستكون لحرب غزة، بعد نهايتها، آثار على منطقة الخليج كما غيرها: فإذا خرجت المقاومة من الحرب، بالشعبية الحالية أو أكثر، ستجد تلك الأنظمة نفسها أمام مشكلة توجب معالجةً من نوع ما، ولا سيما أنها ترى في المقاومة خصماً خطراً بالمعنى العقائدي، لأنها تنتمي إلى البيئة نفسها التي تأتي منها وتحكم باسمها.
لكن هذه الأنظمة لا تنتظر النهايات، بل هي تتصرّف استباقياً وتوظّف ما تملكه من إمكانات مادية وخبرات كبيرة لغرض تحقيق استقرارها. ولذا، إنها منذ الآن تفكّر كيف ستستثمر، إذا كان ممكناً، أو تردّ الضرر عنها، في حال لم يكن ممكناً ذلك. ولعلّ أحد مجالات التوظيف هو المساعدات الإنسانية، التي تمثّل أحد الثوابت في سياسة تلك الدول أو إعادة الإعمار لاحقاً، إذا حصلت. لكنّ ثمة نواحي أخرى، منها التأثير السياسي المباشر الذي تملكه على الأرض، عبر وكلاء، بالقطعة أو بالتلزيم، أو عبر العلاقة مع الولايات المتحدة وإسرائيل، وفي حالة قطر، عبر العلاقة مع حركة «حماس». هنا، يختلف أداء الأنظمة وأدوارها، واستتباعاً تأثّرها بما يجري، فقطر على سبيل المثال تتقدّم بأشواط على باقي أنظمة الخليج، وهي تملك رصيداً كبيراً جمعته على مدى 25 عاماً جعَلها قادرةً على القيام بوساطة في صراع يتوقّف عليه الكثير، ليس في المنطقة وحدها، وإنما في العالم أيضاً. ومن الطبيعي أن تكون الأقدر على التأثير بعد أن تنتهي الحرب. لذا، نجد الأنظمة الخليجية الأخرى تتحلّق حولها، وتشيد بدور الوساطة الذي تقوم به. وهذا، ربّما، ما يفسّر انعقاد القمة الدورية لـ«مجلس التعاون الخليجي»، أمس، في الدوحة، حيث مثّلت غزة بنداً رئيسياً على جدول أعمالها، بعد خمس سنوات متتالية من الانعقاد في السعودية.