على رغم أن السعودية سعت للظهور بمظهر مَن يمسك بالعصا من الوسط بين الطرفَين المتحاربَين في السودان، وقبل ذلك كطرف ساعٍ للسلام، سواء من خلال قيادتها عملية إجلاء الأجانب، أو عبر تناول إعلامها للأحداث، إلّا أنها وجدت نفسها في مواجهة أخرى صارت تبدو طبيعية وبديهية مع الإمارات، التي لا تخفي كثيراً تأييدها لقائد قوات «الدعم السريع»، محمد حمدان دقلو (حميدتي)، في مسعاه للإطاحة بخصمه، رئيس «مجلس السيادة»، عبد الفتاح البرهان. الخلاف الجديد يعزّز فرضية أن النزاع بين الرياض وأبو ظبي، لم يعدْ ظرفياً، أو منحصراً في ملفّ واحد أو بضعة ملفات، بل صار في أساس نظرة كلّ من نظامَي البلدَين إلى مصالحه، بعدما كانا على الضفّة نفسها حين جمعهما التصدّي لتهديد ما سمّي «الربيع العربي»، منذ مطلع العقد الماضي، في كلّ ساحات النزاعات أو الحروب التي شهدتها الدول العربية، من تونس إلى مصر إلى ليبيا واليمن وحتى العراق وسوريا، والسودان نفسه ما قبل الحرب الأخيرة.في السودان بالذات، ثمّة ما يدلّ على أن الرياض مستعدّة للتعامل مع مجموعة أوسع وأكثر تنوّعاً من القوى، بما لا يستثني الإسلاميين، أو حتى جماعة «الإخوان المسلمين»، الذين يقفون في الحرب الحالية إلى جانب البرهان، ما دام هؤلاء ليسوا على أراضيها، في حين تُظهر أبو ظبي مرّة جديدة حساسيتها المفرطة تجاه الجماعة. حدثَ أمر مشابه في اليمن حين كانت السعودية تتعامل مع حزب «الإصلاح» بقيادة آل الأحمر، وهو في كلّ الأحوال تعامُل سابق لحرب اليمن. والسودان نفسه كان ساحة للتقاطع بين الدولتَين الخليجيتَين اللتين كان لهما دور لا يَخفى في الإطاحة بنظام عمر البشير المدعوم من قطر في نيسان عام 2019، وإيصال العسكر إلى الحكم، ومن ثمّ القيام (بدفع إماراتي وتغطية سعودية) بجرّ السودان إلى تطبيع العلاقات مع إسرائيل (قبل أن تغيّر الرياض المسار)، حيث عمدت أبو ظبي إلى إدخال تل أبيب بقوة على الملفّ السوداني من خلال تنظيم اجتماع بين «حميدتي» ورئيس جهاز «الموساد»، يوسي كوهين، على أراضيها، بحضور مستشار الأمن الوطني الإماراتي، طحنون بن زايد، في آب 2020، أي قبل أن توقّع الإمارات نفسها «اتفاقات أبراهام» مع العدو في أيلول من العام نفسه. وهي كانت قد توسّطت قبل ذلك لعقد اجتماع بين البرهان ورئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في أوغندا.
وفي حين أن السودان تَحوّل مع اندلاع الأحداث الأخيرة إلى ساحة للحرب بالوكالة لأطراف دولية وإقليمية متعدّدة تبدأ بـ«فاغنر» الروسية وقوات خليفة حفتر في ليبيا وتشاد وإثيوبيا، ولا تنتهي بمصر، التي تقف في صفّ البرهان، وتُعتبر من الأكثر تأثّراً بالأحداث، فإن التورّط الإماراتي يشير إلى بقاء شهيّة أبناء زايد مفتوحة على استخدام المال الذي يوفّره النفط، في إثارة الحروب المتنقّلة بين الدول العربية، عبر دعم ميليشيات مختلفة، بالتوافق مع إسرائيل والولايات المتحدة، ولا سيما أن أبو ظبي تشعر بتهديد لدورها بفعل التقاربات الأخيرة، وخاصة بعد الاتفاق السعودي - الإيراني الذي قد يفتح الطريق لدور سعودي أكبر، سياسي واقتصادي، في الخليج والشرق الأوسط، وهو ما تعتقد الإمارات أنه يحصل على حسابها.
الدلائل على التورّط الإماراتي كثيرة وتفيض بها التقارير في وسائل إعلام غربية وعربية


والنظام الإماراتي الذي لا يكنّ أيّ عطف للفلسطينيين (بعكس شعبه) يرى مصلحته البعيدة المدى في تفكيك العداء لإسرائيل أو إشعال كلّ الساحات التي تحتضن مثل هذه التوجّهات والميول. وبالنظر إلى أن للسودان والسودانيين دوراً كبيراً في الصراع العربي - الإسرائيلي، فضلاً عن أن العداء للكيان متجذّر في الوجدان هناك، فإن تفكيك هذا الموقف يُعدّ هدفاً مهمّاً للعدو، وفي ظهره الولايات المتحدة التي أغرت عسكر الخرطوم برفع العقوبات المديدة التي فُرضت على بلادهم إذا طبّعت مع العدو، وهو ما حصل. والتاريخ يسجّل أن آخر من رفض الاستسلام في معركة الفالوجة في فلسطين عام 1948، كان السوداني السيد طه، الملقّب بـ«ضبع الفالوجة»، والذي كان يقود اللواء المصري الرابع بعد أن طوّقته قوات العدو وقطعت كلّ إمداداته. وكان مساعد طه في ذلك اللواء، جمال عبد الناصر نفسه.
على أيّ حال، الدلائل على التورّط الإماراتي في السودان كثيرة، وتفيض بها التقارير في وسائل إعلام غربية وعربية، كما الحملات المتبادلة على وسائل التواصل الاجتماعي، والتي ترسم في الخليج ما لا تستطيع وسائل الإعلام الخليجية التعبير عنه بصورة مباشرة، ولا سيما من ذلك الاتهامات الكثيرة التي أطلقها مغرّدون سعوديون موالون لوليّ العهد، محمد بن سلمان، لأبو ظبي. أيضاً، سجّل حساب موالٍ لوليّ العهد السعودي السابق، محمد بن نايف، انزعاجاً من الإمارات، معتبراً أن «نهجها في دعم جماعات اللادولة أصبح لا يهدّد الدول المشتعلة فقط، وإنّما الدول الهادئة المستقرّة أيضاً. فتدهور الأوضاع في أيّ دولة عربية يهدّد بالضرورة الدول المجاورة وغير المجاورة»، وخلص إلى أنه «لا بدّ من وضع حدّ لأبو ظبي».
وكانت صحيفة «تلغراف» البريطانية قد ذكرت أن الأسلحة الإماراتية التي عُثر عليها بحوزة قوات دقلو، وهي عبارة عن قذائف حرارية صُنعت في صربيا عام 2020 وسُلّمت لاحقاً إلى أبو ظبي، تشير إلى تورّط الأخيرة في الصراع السوداني. وفي تسجيل منسوب إليه، اتّهم رئيس المخابرات السوداني السابق، صلاح الدين قوش، الإمارت، بالوقوف وراء حرب السودان، عبر إقامة مطبخ للسياسة السودانية في عاصمتها حيث كان رئيسها محمد بن زايد قد استقبل «حميدتي». ويستهدف البرنامج، بحسب قوش، إحلال قوات «الدعم» بدلاً من الجيش، عن طريق السيطرة التامّة على المطارات والقيادة العامة والقصر الجمهوري والإذاعة والتلفزيون.
والتورّط الإماراتي في دعم الميليشيات السودانية ليس جديداً، إذ يصف موقع «ميدل إيست مونيتور»، «حميدتي»، بأنه أقرب صديق عربي لنائب رئيس الإمارات، منصور بن زايد، الذي لديه اتّصالات قديمة مع الجماعات المسلّحة في دارفور، معقل دقلو، في حين أن شقيقه طحنون لديه استثمارات كبيرة منذ عام 2020، تُقدَّر بنحو 225 مليون دولار مع أسامة داوود، رجل الأعمال السوداني المقرّب من البرهان. وكان للمرتزقة السودانيين دور في حرب اليمن، ولا سيما في الحديدة وعلى الحدود مع السعودية، إلى حدّ إطلاق بعض اليمنيين على المقاتلين السودانيين مع التحالف السعودي - الإماراتي، اسم «جنجويد الإمارات». لكن دور هؤلاء تَحوّل لاحقاً إلى مصلحة أبو ظبي حين وقع الافتراق بين طرفَي التحالف المذكور.
السودان لا يملك الكثير من الموارد، إلّا أنه يحتلّ بمساحته المترامية، موقعاً استراتيجياً ذا تأثير كبير؛ إذ يطلّ على البحر الأحمر حيث يقابل السعودية على الضفة الأخرى منه، ويحادِد دولاً في القرن الأفريقي، وأخرى في شمال أفريقيا، والأهمّ مصر التي تخوض صراع حياة مع إثيوبيا على النيل، وهو صراع يمكن لتدحرج الأحداث في السودان، حيث يمرّ النهر، أن يؤثّر عليه بشكل يضرّ كثيراً بالأمن القومي المصري. صحيح أن احتمالات تطوّر الحرب الدائرة تبقى مفتوحة، لكنها كلّها تقود إلى أوضاع سيئة، سواء ربح «حميدتي» وصار الرجل الأوّل في البلد، أو استطاع البرهان أن ينهي التمرّد، ما قد يدفع الأول إلى التراجع نحو معقله في دارفور، وإعلان انفصال ذلك الإقليم عن البلاد، أو أقيم نوع من التوازن العسكري بينهما وطال أمد الحرب.