فيما لم تتّضح بعد مآلات الأزمة المستعرة في السودان، بادر مسؤولون في الخارجية الإسرائيلية (24 الجاري) إلى الإعلان عن عرض «وساطة» رسمي بين أطراف الأزمة، بغرض التوصّل إلى وقف ممتدّ لإطلاق النار، وهو ما أعقبه إعلان الطرفَين المتقاتلَين، بالفعل، قبولهما هدنة مقترحةً أميركياً لمدّة 72 ساعة. وشمل العرض الإسرائيلي اقتراحاً بعقد «قمّة سلام» بين رئيس «مجلس السيادة» عبد الفتاح البرهان، وقائد قوات «الدعم السريع» محمد حمدان دقلو «حميدتي»، الأمر الذي لقي ترحيباً من قِبَل الأخير، فيما ظلّ موقف الأوّل ضبابياً حياله.
خلفية «الوساطة»
بينما كانت تداعيات الأزمة السودانية عقب إعلان جنوب السودان استقلاله في عام 2011، تلقي بظلال كثيفة على الأوضاع في إقليم دارفور، وسط مخاوف تكثّفت وقتها من تَكرّر سيناريو الانفصال، كان السفير الإسرائيلي في القاهرة حينذاك، حايم كورين، الذي نال درجة الدكتوراه عن دراسة وثائقية عن «الأرشيفات المحلّية في دارفور (غربي السودان/ 1720- 1916)»، يتابع ويدير ملفّ الإقليم عن كثب، من مصر التي انخرطت قواتها في بعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام في دارفور، وظلّت تترقّب بدورها بقلق بالغ تلك التداعيات. وبدت إسرائيل حاضرة بقوة في جهود تسوية أزمة دارفور خلف التنسيق الأميركي - القطري بهذا الخصوص، فيما غطّت وسائل إعلامها الجرائم المرتكبة في الإقليم بشكل موسّع بوصفها «هولوكوست ضدّ المسلمين غير العرب». وفي المقابل، وجّه الرئيس الليبي الراحل، معمر القذافي، ورئيس الاتحاد الأفريقي وقتها (شباط 2009) الاتهام مباشرة إلى «قوى خارجية» بينها إسرائيل، بالوقوف وراء نشوب الصراع في دارفور، في سردية كانت تحظى بقبول شعبي آنذاك.
وبعد أكثر من عقد، دخل السودان في موجة عنف هي الأكبر من نوعها، يرشَّح أن تتصاعد - حال استطالتها - على وجه خاص في إقليم دارفور، وبعض جيوب تمدّد قوات «الدعم السريع» في جنوب كردفان. ولم تغب إسرائيل عن المشهد السوداني طوال هذه الفترة البَينية، إمّا بحكم ارتباطاتها المباشرة بالمرحلة الانتقالية في السودان ومشروطياتها من قَبيل ربط رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب بتطبيع موازٍ للعلاقات مع الكيان الصهيوني؛ أو بحكم تشابكاتها مع ديناميات التدخّل الدولي والإقليمي في الأزمة الراهنة، وعمق تأثير «العامل الإسرائيلي» لدى أطراف النزاع في الداخل، وإنْ من بوّابات خليجية (إماراتية بشكل مباشر، وسعودية بدرجة أقلّ) هذه المرّة.

إسرائيل و«الدعم السريع»: حدود الارتباط
تعود صلة إسرائيل بالوضع السوداني بشكل عام، وقوات «الدعم السريع» بقيادة «حميدتي» على وجه الخصوص، إلى ما قبل تداعي نظام عمر البشير من نواحٍ عدّة، منها الترتيبات الأمنية واسعة النطاق في ملفّ «مواجهة الإرهاب»، وتحت مظلّة أميركية واضحة، ثم عبر ما تُعرف بـ«الصِلة اليمنية»، حيث نشرت «الدعم» الآلاف من عناصرها في اليمن لمساندة التحالف الذي قادته السعودية ضدّ حركة «أنصار الله» في الحرب المستمرّة منذ ثماني سنوات، والتي شكّلت إسرائيل إبّانها حليفاً سياسياً وعمليّاتياً - جزئياً - لـ«التحالف»، وتحديداً لطرفه الإماراتي. كما قد يزداد وجاهةً الحديث عن وثاقة التشابك في ما بين إسرائيل والإمارات في السودان، وميلهما المفترَض إلى جانب «الدعم السريع» على وجه التحديد - على رغم أن تل أبيب رفضت بالفعل معظم الطلبات العسكرية التي كان تَقدّم بها شقيق «حميدتي» عبد الرحيم دقلو، ومستشاره السياسي يوسف عزت، أو أرجأتها بالتشاور مع واشنطن -، على خلفية التداعيات المنتظَرة لـ«التقارب السعودي - الإيراني» في اليمن، ومخاوف أبو ظبي وتل أبيب من تأثّر مصالحهما سلباً هناك، لا سيما في ظلّ ما أثاره إعلان بكين من توقّعات بتراجع وتيرة التقارب الخليجي - الإسرائيلي خارج «محور الإمارات».
تعود صلة إسرائيل بالوضع السوداني بشكل عام إلى ما قبل تداعي نظام عمر البشير


كذلك، لا يمكن فصل مساعي «الدعم السريع» للتمركز في شرقي السودان، عن اشتغال الإمارات (حليفة إسرائيل الأولى في الشرق الأوسط) على إقامة ميناء جديد على سواحل السودان على البحر الأحمر، خصوصاً في ظلّ تفاقم المخاوف الإسرائيلية ممّا وصفته وزارة الدفاع بـ«تدهور الوضع البحري»، والذي يشمل «عمليات الإيرانيين في البحر الأحمر»، و«امتلاك حزب الله العشرات من صواريخ بر - بحر، والتي يمكنها استهداف السفن وآبار البترول والمرافق الحسّاسة على امتداد سواحل البحر الأحمر». وعلى رغم عدم إشارة تقديرات الوزارة إلى السودان مباشرة، فإن حساسية الوضع في اليمن - من وجهة نظر تل أبيب -، والإشارة المفتوحة إلى «ما وراء اليمن»، تعيدان الصلة بين «الدعم السريع» وإسرائيل في الملفّ الأمني إلى واجهة الاهتمام الإسرائيلي الراهن بالأزمة في السودان، وهو ما ينطبق أيضاً على أنشطة تلك القوات في دولتَي جوار السودان، تشاد وجمهورية أفريقيا الوسطى، الداعمتَين للسياسات الإسرائيلية في مواجهة «التمدّد الإيراني»، والمستمرّة منذ سنوات حُكم عمر البشير الأخيرة وحتى الآن.

الأزمة السودانية والعامل الإسرائيلي: الاحتواء المزدوج
سلّط تقرير لموقع «أكسيوس» (19 الجاري) الضوء على ما تمثّله الأزمة الراهنة من خطر على مشروع التوصّل إلى «اتّفاق سلام» في ما بين إسرائيل والسودان. وعلى هذه الخلفية، يُفهَم انخراط تل أبيب في محادثات منتظمة مع البرهان، تَمثّل أبرز فصولها في زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي، إيلي كوهين، إلى الخرطوم في شباط الفائت، وحثّه مضيفه على «المضيّ قُدُماً في إعادة السلطة إلى حكومة مدنية»، علماً أن ثمّة قناعة لدى النُخب السودانية المناهضة للتطبيع بأن إسرائيل وفّرت معلومات استخبارية وأدوات إلكترونية للجيش للقيام بقمع الفصل الأحدث من الاحتجاجات. وبالتوازي مع اتّصالات الخارجية بالبرهان، كثّف الموساد، من جانبه، اتّصالاته بـ«حميدتي» حول قضيّتَي الأمن ومواجهة الإرهاب، عبر اجتماعات رسمية منتظمة منذ مطلع عام 2020 على أقلّ تقدير.
وعلى رغم حرص تل أبيب على عدم الانخراط المعلَن في مسار الأزمة أو مساعي تسويتها، فقد أكد مسؤولون إسرائيليون طلب واشنطن إليهم منذ اليوم التالي للأزمة، الضغط على الطرفَين المتصارعَين للاتفاق على وقف لإطلاق النار، وهو ما أعقبه تواصُل الخارجية مع البرهان والموساد مع «حميدتي»، وإصدار الخارجية الإسرائيلية بياناً دعت فيه «جميع الأطراف إلى النأي عن استخدام العنف، والعودة إلى طريق المصالحة الداخلية من أجل اختتام عملية الانتقال الحكومي بإجماع كبير». ومع مرور قرابة أسبوع على الأزمة، وقُبيل إعلان مبادرة الـ24 من الجاري، تحدّث مسؤولون إسرائيليون عن وجود «خطّ مباشر» مع القادة العسكريين، مؤكّدين أن تل أبيب تحاول الإسهام في جهود التهدئة، فيما تباينت تقديرات المحلّلين الإسرائيليين بخصوص تنسيق إسرائيل مع مصر في الملفّ السوداني من عدمه.
وكانت مصادر إسرائيلية قد أشارت (21 نيسان ) إلى «التوصّل قبل أشهر» إلى صيغة الاتفاق النهائي بين تل أبيب والخرطوم، والمتضمّنة بنداً يتعلّق بانسحاب الجيش السوداني من المشهد السياسي بالكامل «عقب إجراء انتخابات عامّة»، وهو ما لا يتعارض في جوهره مع موقف البرهان من الاتفاق «الإطاري» وما عُرف بـ«مسوّدة الاتفاق السياسي النهائي»، وتمسّكه بعملية سياسية أوسع وغير إقصائية - وهو تمسّكٌ إنّما يرمي على أيّ حال إلى غاية في نفسه -. لكن صِدام 15 نيسان، وموقف إسرائيل «المتوازن» من أطراف الصراع، ربّما يُفضيان إلى قبول الأخيرة بتجاوز «الإطاري» لفكرة الانتخابات العامّة، لصالح فرض تسوية سياسية فوقية «في أسرع وقت ممكن»، تلبيّ أغراض «محور إسرائيل» في السودان.

المبادرة الإسرائيلية: الفرص والتهديدات
يفترض محلّلون وجود «انقسام في الرؤى» إزاء الأزمة في السودان، بين الخارجية الإسرائيلية الداعمة للبرهان، والموساد الداعم لحميدتي، عادّين ذلك دوراً مزدوجاً في هذا البلد. وأيّاً يكن، فقد جاءت المبادرة الأخيرة لتُظهر أنه باتت لدى تل أبيب القدرة على التأثير في مجريات الأمور بالفعل، سواءً عبر تنسيق أميركي راسخ، أم من خلال ضبط متغيّرات المواقف العربية الفاعلة في السودان بما يلائم مصالح إسرائيل. وتتمثّل فرص المبادرة الإسرائيلية في أنها أوّلاً جاءت بتنسيق وربّما بطلب أميركي بحسب مصادر إعلامية إسرائيلية، وثانياً في أنها تلْقى دفعاً من الإمارات التي تتفادى في المقابل أيّ تنسيق حقيقي مع مصر، في وقت تتصاعد فيه الأزمة الباردة بين البلدَين على رغم الجهود الرسمية لإظهار خلاف ما تَقدّم. وبالنظر إلى قدرة أبو ظبي غير المحدودة على التأثير في خيارات «حميدتي» من جهة، والضغط على البرهان من جهة أخرى؛ وبالنظر أيضاً إلى أن مسار تطبيع العلاقات السودانية - الإسرائيلية كان قد شهد دفعات قوية قادها رئيس «مجلس السيادة» بنفسه، فقد تتقدّم فرضية ميل تل أبيب إلى التقارب مع البرهان واحتواء «حميدتي» في آن.
في المقابل، فإن التهديدات المحدقة بالمبادرة الإسرائيلية تتمثّل أوّلاً في أن أحد بنودها المتّصل بعقد اجتماعات بين البرهان و«حميدتي» في إسرائيل، إنّما يمثّل «الخطوة ما قبل النهائية» في مسار التطبيع - وإنْ حاولت تل أبيب تصديره بوصفه مِنحة للخرطوم -، وهو ما قد لا يمرّ بسهولة. كما أن التجاهل الملحوظ للقاهرة، والذي يصبّ في خانة إرباك مسار التسوية النهائية للأزمة وضمان وقف طويل المدى لإطلاق النار، وعدم اتّضاح مدى إمكانية إطلاق عملية سياسية جديدة، يعنيان أن نتائج مبادرة إسرائيل قد تقتصر على إحلال هدنة مؤقّتة.

خلاصة
نجحت إسرائيل في إحداث اختراقات منهجية ومستدامة في المسألة السودانية منذ عقود، كما نجحت في استغلال تناقضات السياسات الداخلية في هذا البلد لصالح توظيف أكبر للتدخّل الإقليمي والدولي المتّسق مع مصالحها في شرق أفريقيا والبحر الأحمر بشكل كامل. وتبدو المبادرة الإسرائيلية الأخيرة مجرّد حلقة أكثر وضوحاً ودقّة على طريق السعي نحو تحقيق هذه الأهداف، فيما تظلّ حالة الاضطراب العربي الراهنة مفتاحاً رئيساً لتحقيق تل أبيب اختراقات إضافية في السودان ودول جواره، وتهديد أمن دول أخرى من بوّابة إعادة صياغة النظام الإقليمي.