بغداد | تتعرض القرى والمدن الصغيرة في مناطق غرب العراق، وشماله لعمليات إبادة وتهجير قسري لسكانها حتى بدأت تخلو من «التلون» الطائفي شيئاً فشيئاً. بين آمرلي و ستالينغراد، مشترك «الحصار» وسبعون عاماً من زمن مضى. لكنّ هذه القرية التي يسكنها التركمان الشيعة، وفي عصر التواصل الرقمي والنجدة «الصاروخية» في أوقات الأزمات، تعيش على وقع أجندة «سلحفاتية» لإيصال المؤن والأغذية والأدوية والعتاد لسكانها المحاصرين من قبل المسلحين من كل جانب.

وفيما وفّرت وسائل الاتصال الحديثة فرصة الاتصال هاتفياً بالأهالي، إلا أن هذه التقنيات تعجز عن إنقاذهم، ليتحول صراخ باسم سعيد في التلفون، إلى صدى يرتد عليه وهو يتصل بأفراد أسرته الذين فرّوا من آمرلي، إلى قضاء طوزخرماتو المجاور. ويقول سعيد، المقيم في العاصمة البلجيكية بروكسل منذ 2012، إنه كان يتصّل على نحو شبه يومي بأفراد أسرته المحاصرين، وهو الذي اقترح عليهم ضرورة الهجرة من آمرلي قبل فوات الاوان. ويزيد في القول «نحن هنا في المهجر نعرف من الأخبار وتطورات الأحداث، أكثر مما يعرف المحاصرون»، مضيفاً، «إنها مفارقة العصر حين تتواصل عبر البحار مع أناس (يغرقون) ولا تستطيع مساعدتهم».

ثلاثة آلاف متطوع
للدفاع عن أطفال
ونساء أمرلي


وتتعرّض القرى والمدن الصغيرة في مناطق غرب العراق، وشماله لعمليات إبادة وتهجير قسري لسكانها، حتى بدأت تخلو من «التلوّن» الطائفي شيئاً فشيئاً. ويقول حميد علي، الذي يسكن في بروكسل في بلجيكا، ويتواصل مع أهله في قرية «صياد» القريبة من آمرلي، إن «هناك عملية انتقاء طائفي في غرب العراق وشماله، يغض النظر عنها الإعلام»، مؤكداً أنه «ليست الدولة الإسلامية وحدها من تقوم بذلك، بل أبناء العشائر المتعاطفون مع الفكر التكفيري أيضاً». إن حقيقة ما يحدث، ينقلها النازح أبو حيدر على حسابه في موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك»، الذي يصف «آلية التهجير القسري للسكان على الهوية الطائفية»، فيقول «قدِم إليّ جاري من الطائفة الأخرى يحذرني من البقاء، على رغم علاقة الجيرة التي تربطني به والتي مضى عليها نحو عقدين من الزمن، وحين عزمت على الرحيل طلب مني ترك ممتلكاتي لأنها غنائم، وأن عليّ أن أُسرع في الرحيل قبل وصول أفراد الدولة الإسلامية إلى المكان». وهكذا أصبح أبو حيدر إنساناً غريباً ومنبوذاً في بيئته، بسبب شيوع ثقافة العنف والكراهية، مع تعاظم نفوذ «الدولة» والجماعات المسلحة في مناطق غربي العراق وشماليه.
من جهته، يستغرب مدير المركز الثقافي العراقي في واشنطن نزار حيدر «كيف أن الدولة العراقية، بمختلف مؤسساتها، أغفلت مناطق التركمان في محافظة الموصل، فلماذا لم تحرّك ساكناً للدفاع عنهم وحمايتهم كل هذه المدة من الزمن؟ فيما كان واضحاً للعيان، ومنذ البداية، أنهم سيتعرضون لمثل هذه المجازر التي يرتكبها اليوم الإرهابيون، لأنهم محاطون بالجماعات التكفيرية التي ظلت تتربص بهم للانقضاض عليهم».
ويستدرك في الحديث، مندهشاً من «تأخر تحرك مؤسسات الدولة العراقية، إلا في الوقت الضائع؟ وعدم استشعارها الخطر أمنياً واستخبارياً قبل وقوعه».
ولا يعتقد الباحث والمؤرخ العراقي حليم الياسري أن «العمليات العسكرية ستحل الوضع الطائفي الشائك في مناطق غرب وشمال العراق»، مؤكداً أن «الإعلام يتعمّد إغفال حقيقة انتقائية طائفية تحدث هناك، يشترك فيها الكثير من المتعاطفين مع الإرهاب أيضاً».
فيما ينتقد الصحافي أحمد جبار غرب، طريقة التعامل مع أزمة آمرلي وأخواتها في النكبة، فيقول إن «الجماعات المسلحة وأفراد الدولة الإسلامية يحاصرون العراقيين في الجبال، بينما الأميركيون يرمون لهم الأغذية والمياه»، في مفارقة «تبعث على الحزن على شعب يباد في وطنه». غير أن آمرلي، سيسجّل لها التاريخ أنها قاومت بضراوة المسلحين الذين أرادوا استباحة أهلها وقتلهم وتهجيرهم، فيقول سعد علي من أهالي المدينة، إنها «ظلت تقاوم الهجمات على رغم ندرة المؤونة والعتاد، وأقام أهاليها طوقاً مقاوماً سقطت دونه الهجمات، وجعلوا من محيطها مقابر جماعية لأفراد القوات المهاجمة».
وأردف قائلاً ومفتخراً «يهاجم المسلحون المدينة في أفواج متتابعة، لكن شباب آمرلي كانوا لهم بالمرصاد».
ولا تبعد آمرلي سوى عشرين كيلومتراً عن المناطق التي تنتشر فيها قوات البشمركة الكردية، وهو ما سهّل إنقاذ النساء والأطفال عبر طريق مؤمنة باتجاه طوزخورماتو.
ومن بين نحو عشرين ألف نسمة، يجيد نحو ألف من السكان استخدام السلاح، وارتفع العدد إلى ما يزيد على الثلاثة آلاف مقاتل بوصول متطوعين وقوات الجيش والشرطة، بحسب سعيد حسن، أحد متطوعي السرايا الشعبية.
وآمرلي من الناحية الإدارية، هي ناحية تقع في قضاء طوزخورماتو، على وادي «كور دره»، الذي يقسمها إلى نصفين، يكسبها بيئة لطالما تغنّى بها العشاق وقصدها الناس للتمتع بهوائها العليل، وتؤلّف بقراها بيئة شيعية عاشت بسلام ووئام في وسط سني، لم يمثل قبل هذا الوقت خطورة عليها. لكن في ظل المعاناة التي يعيشها النازحون قسراً بسبب التهييج الطائفي من سنجار وآمرلي ومناطق أخرى، إلا أن آمالهم تبقى معقودة على انحسار الفكر التكفيري المتطرف الذي نجح في التغلغل في صفوف بعض العراقيين، الذين وجدوا أنفسهم على حين غرة، طائفيين في السلوك والاعتقاد.