باريس | عندما تكون داخل بلادك لا يسعك التضامن معها، فحياتك من حياتها وواقعك من واقعها. تتلازمان، لا مكان للتضامن مع نفسك بل للعمل من أجل البلد. أمّا عندما تكون خارج البلاد يصبح لمفهوم التضامن مدى آخر جديد، لم تكن تفكّر فيه من قبل. هذا بالضبط ما يشعر به الفرد المقيم في دول الخارج، عندما يعلم ويشارك بتظاهرة أو بتحرّك ما، دعماً وتضامناً مع قضيّة بلادنا المركزيّة، فلسطين.
في باريس، كما في مدنٍ أخرى من العالم، نُظِّمت تظاهرات تضامنيّة ضد العدوان المباشر الموسّع على قطاع غزّة والمحدود على الضفّة الغربيّة والداخل الفلسطيني المحتل. تظاهرتان مركزيّتان شارك فيهما أكثر من 20000 شخص رخّصت لهما الدولة الفرنسية، وتحركّات أخرى لم يُرخَّص لها، تخلّلتها مواجهات مع الأمن الفرنسي وقمع. ووسائل إعلاميّة غطّت التحركات، كصحيفتي «لو موند» و«لو فيغارو» مع استياء عام بسبب قمع «حريّة التعبير» وتواصل الدعم الرسمي الفرنسي للكيان الإسرائيلي الغاصب. هذه صورة التحرّكات التضامنيّة عموماً في باريس.
ولكن إذا دخلنا في تفاصيل التحركين الشاملين اللذين حصلا في 26 تموز وفي 2 آب، فالصورة تبدو مختلفة. بدءاً من وسائل النقل العامّة مروراً بآراء الناس المشاركة وشعاراتها، وصولًا إلى نتائج التحركات.
نصل في قطار الأنفاق المكتظ بالناس والحقائب، لكونه يصل باريس بمطاريها الشمالي والجنوبي ويؤدي إلى «دانفير روشرو» (denfert-rochereau)، في وسط العاصمة، مكان انطلاق التحركين. يقف شابٌ يرتدي قميصاً أخضر مكتوباً عليه «الجزائر» (قميص منتخب الجزائر في كرة القدم) ويقول بالفرنسية: «نحن الفلسطينيين، ننزل هنا». يردّ عليه بعض الناس في القطار: «تحيا فلسطين». ننزل وينزل عدد كبير من الناس من القطار، لنجد أنّ المحطة متّشحة بالكوفيات وبأعلام فلسطين. مشهدٌ يفرح القلب، فزحمة الناس في الصيف تكون قليلة جداً، خلال العطلة في باريس. يتدافع الناس للخروج من المحطة ويُسهم موظفوها في تنظيم خروجهم عبر فتح كافة الأبواب. نخرج لنرى المشهد. آلاف من المشاركين. بعضهم يبدأ بارتداء ملابس تحمل شعارات كانوا قد خبأوها في حقائبهم، وآخرون يوزّعون بيانات أو أعلاماً. بعض الوجوه تلوّنت بألوان العلم الفلسطيني، شبابٌ يكتبون شعارات لرفعها في التظاهرة، مجموعة تقدّم مشهداً فنيّاً عن قتل الأطفال واستهداف الإعلاميين في غزة وصمت العالم، وبموازاة ذلك الكثير الهواتف النقالة تصوّر الحدث. ينطلق المتظاهرون وشرطة مكافحة الشغب تملأ المكان، تحيط بالتظاهرة من كل صوب، تقطع الطرق من حولها. للمشارك طريق واحد يستطيع سلوكه، هو طريق التظاهرة نفسها.
في التظاهرة شعارات متنوّعة، وبالرغم من أنّ معظمها باللغة الفرنسيّة، إلّا أنّه يوجد أيضاً بعض الشعارات باللغة العربية ونادراً بلغات أخرى. تظنّ أنّ الشعارات ستتمحور حول «حقوق الإنسان والسلام» ولكن لا، فشعار التظاهرة الأساسي هو «دعم المقاومة الفلسطينيّة بكل أشكالها». تتألّف التظاهرة من مجموعات عدّة تمشي الواحدة تلو الأخرى. كلّ مجموعة تتبع إحدى الجهات المنظّمة ولكل منها جمهورها وأفكارها. مجموعةٌ محسوبة على «القسّام» وأخرى على اليسار الفرنسي، أو تابعة لجمعيات حقوقيّة أو طلابية من فلسطين والدول العربية أو من أوروبا، والكثير من المشاركين المستقلّين غير التابعين لجمعيات أو منظمات. ولكن تبقى الهتافات موحّدة بين الجميع: «من باريس لغزّة، مقاومة مقاومة»، «نحن كلنا فلسطينيون»، «حماس مقاومة، الجهاد مقاومة، غزّة مقاومة، فلسطين مقاومة»، «إسرائيل قاتلة، هولاند شريك»، «إسرائيل اخرجي، فلسطين ليست لكِ»...
خلال التظاهرة، نسمع الكثير من الأفكار والآراء، ونرى صوراً عن العدوان والاحتلال والعنف وقتل الأطفال والتواطؤ الدولي، ولا يغيب المناضل جورج عبد الله عنها، لا بالشعارات ولا بالهتافات الداعية لإطلاق سراحه. كذلك لا يغيب عنها شعار «مقاطعة إسرائيل»، الذي يتوسّع مداه في باريس أكثر فأكثر عبر عرض كافة المنتجات الداعمة للكيان الغاصب والمنتجات الإسرائيلية الصنع في لوحاتٍ كبيرة.
أمّا التنظيم فيُشهد له في كلتا التظاهرتين، بوجود أعداد كبيرة من الشباب المنظمين على طول التظاهرة. هذا التنظيم أدى الدور الأساسي في إعطاء التراخيص، فالجمعيات المنظمة معروفة لدى الدولة الفرنسية بجديّة عملها وانضباط عناصرها وتحرّكاتها.
تسير التظاهرة باتجاه وزارة الشؤون الخارجيّة، وقد سدّ الأمن كل الطرق المؤدية إليها، فيتجمّع الناس هناك وتعلو وتيرة الهتافات لعدّة دقائق، ومن ثمّ يتفرّقون في الحديقة بجانب الوزارة. منهم من يستلقي أرضاً بعد السير لمدة تقارب ثلاث ساعات، ومنهم من يرحل مباشرةً. وفي طريق العودة، نرى أعلام فلسطين تجوب الشوارع الباريسية متفرّقة، ونلحظ في وسائل النقل العامّة أعلاماً صغيرة قد تركها أصحابها ملصقة في باصٍ أو قطار... فلسطين هنا!