بغداد | في مطعمٍ بفندقٍ بغدادي كبير، كان وجه هذا الضابط في الجيش العراقي غير مألوفٍ بالزي المدني، بعد أن عُرِف مدججاً بالسلاح، و«مرقّطاً» ببذلة حرب. كان الناس يعرفونه كأحد كبار قادة المواجهات مع مسلحي «الدولة الإسلامية»، وهو اليوم يقضي إجازةً بعيداً عن الأنظار، كما لو أنه يحاول أن يسترجع الأنفاس.
رغم كل ذلك، كان غبار «الجبهات» يتطاير فوق طاولتنا.
قال: «لا تسألني عن الوضع. ستفعل معي معروفاً لو تبادلنا الحديث عن الغناء، مثلاً».
هاتفه المحمول يرن مراراً، والرسائل النصية تنهال على خطه من دون توقف، وهو لا يتورع عن رفضها، ليبقى صامتاً وهادئاً. ويظل يكرر الطلب، «إياك أن تسأل عن تكريت».
كان المطعم مشغولاً بعراقيين هاربين من الصيف والقلق، بعضهم يتسرب إلى المسبح المجاور، فيما آخرون يتناولون وجبة طعام ويلقون التحية على جليسي.
في نحو ساعة من الزمن، كان الضابط يدعو الناس إلى مجالسته. كان هناك من ينهال عليه بالإطراء، لكنه يسأل: «متى يدخلون بغداد؟».
لقد شرب خمسة أقداح من الشاي، وقدّم العصير لضيوفه الذين يتناوبون على طاولته المحاطة بالحرس، الذين وجدوا أنفسهم، في حالات نادرة، بين المدنيين من دون زي عسكري، رغم أنهم يخفون مسدساتهم تحت ملابسهم المدنية.
وأخيراً، لم يجد الضابط في نقاهته ما يقوله، سوى أن يتحدث بـ«مدنية» عن العسكر. سُئِلَ عن نهاية «الفيلم»، فبادر إلى القول: «شوف... حتى لو اجتمع الجيش والبشمركة على طرد داعش من الموصل، مراح يقدرون». ليُسأل مرة أخرى: «طيب، وما الحل؟». قال ضاحكاً: «اعذرني ما لي علاقة بالسياسة».
انفرط حصن الضابط على أسراره، وبدأ بمنطقة الإسحاقي، «قالوا لي (في القيادة) نحتاجك لتمشيط المنطقة، قلت سآخذ نخبة من الجنود المتخصصين بحرب الشوارع وسأذهب إلى هناك. هم يعرفون أنني لا أمسك الأرض، وحدتي الخاصة تعالج الجيوب المسلحة لتأتي وحدات الجيش والشرطة تمسك الأرض من خلفي».
«سألتهم: ومن يمسك ظهري؟ قالوا لي: روح للإسحاقي والله كريم».
استغرق الضابط في سرد «شجاعة جنوده»، وكان يتحدث عن نحو 300 مسلح من «الدولة الإسلامية» يحاصرون وحدته الصغيرة، «لكنها محترفة ومدربة»، بينما شوارع الإسحاقي ملغمة بالبراميل.
قال: «شاهدت في طريق التوغل، كيف وضع المسلحون الثلاجات والمجمدات في عرض الشارع ليعوقوا الحركة، وما إن تتجاوزها تواجهك براميل تُفجَّر عن بعد… لقد شعرت بأنهم يخرجون من كل حدب وصوب».
«صاح الجندي: إنهم يحاصروننا، ولم يمر وقت طويل حتى انهال علينا الرصاص. خسرنا عدداً من الجنود بين شهيد وجريح. تجمّعنا سريعاً ومشّطنا المنطقة بمعالجة كثيفة بالنيران استعملنا فيها سلاحاً ثقيلاً». يواصل الضابط حكايته عن الإسحاقي.
قال أحد جلساء الضابط، وكان فرحاً بما يسمع: «عاشت أيدك». ضحك صاحبنا، «لا تفرح، فقد عاد المسلحون إلى الإسحاقي بعد أيام، لأن أحداً لم يفكر في مسك الأرض».
قبل أن أسأل عن تكريت، كانت شهية الضابط مفتوحة لحكايات قديمة عن «تنظيم القاعدة».
«اعتقلنا أبو طلحة في الموصل، قادنا إلى أبو عمر في الأنبار، ثم إلى عبد الرحمن، الذي أرشدنا إلى شخص مقرّب من الزرقاوي. أمسكته بنفسي وجلست معه أياماً قبل أن أعرف أنه أرسل إلى زعيم القاعدة في العراق ثلاث شرائح لهاتف الثريا، كنا نتصل على رقم منها يجيب ويقفل الخط على الفور، لكن الأميركيين حددوا موقع الاتصال، وفي آخر اتصال، قال الزرقاوي لرفيقه: تعال اليوم وجبة غداء عامرة، لاحقاً حددنا وقتاً للضربة الجوية على المنطقة التي كان فيها الزرقاوي، وكانت هبهب في ديالى، وبينما الطائرات تضرب الهدف كنا نقف على بعد 300 متر».
قال: «جاءت العجلات لترفع الأنقاض، وحين أخرجنا جثة الزرقاوي، كانت هناك جثة لسيدة بالقرب منه، كانت جميلة جداً».
حان الوقت لتكريت، ولم تفلح محاولات في التهرب من أفواه قلقة تريد أن تعرف الوضع في ثاني معاقل «الدولة الإسلامية» على طريق الزحف بعد «ولاية نينوى».
يحاول الضابط تحاشي التورط في «حديث سياسي» عن المعارك. حتى إنه يخفض رأسه حين يُسأل عن «إدارة القائد العام للقوات المسلحة»، ويصمت حين يتبادل جلساؤه الحديث عن الوضع الأمني في «الولاية الثالثة لنوري المالكي، وكيف سيكون لو كانت هناك ولاية أولى لشخص آخر». لكنه سرعان ما يبادر بقصة من «الميدان».
«كانت رحلة طويلة، عبر طريق حولي من جنوب المدينة إلى قاعدة سبايكر العسكرية. لم نكن نستطيع التوغل في العمق لأننا كالعادة من دون ظهر يحمي. قبل أن ننطلق، كانت هناك مكالمة هاتفية مع ضابط مسؤول في بغداد أعطى لي تعليمات بالتوغل في العمق. قلت له: أنت مو قاعد في بغداد على التبريد تحكي بكيفك، تعال هنا شوف الضيم».
لقد كان الضابط الذي تفاخر بأنه يتوافر على جنود يتقنون حرب الشوارع، يحاول أن يقول إن الوضع في المدن التي سيطر عليها تنظيم «الدولة الاسلامية» ليس بمستوى القدرات العسكرية. حتى وحداته «الشرسة»، كما يحب أن يصفها، لن تقوم بأكثر من توجيه ضربات تسهّل عمل الجيش.
«وصلنا، أخيراً إلى سبايكر. كان هناك قادة وحدات عسكرية ينتظرون للإجلاء. وصلت طائرة مروحية، لكنها تعرّضت للنيران، حتى قررنا إخراجهم براً، وفي الطريق الحولي الذي جئنا منه».
قال الضابط: سألتحق قريباً بالعمل، لكنني أشعر باليأس، الجهد العسكري «مفكك، فالاستخبارات تكذب وقادة العمليات يشبهون الهواة».
رفع الضابط جلسته «الودية»، قائلاً: «هسه مال مقام بغدادي قبل ما تنتهي الإجازة».

تُنشر بالتعاون مع موقع «واي نيوز»