غزة | أعلن الاحتلال فجر أمس أنه سيعطي هدنة أحادية الجانب لمدة سبع ساعات، تبدأ من العاشرة صباحا حتى الخامسة مساء، وما هي إلا ساعتان، حتى بدأ العدو يخترق وعده الذي أطلقه، وعاد ليستهدف منازل المدنيين والصحافيين والطواقم الطبية التي ذهبت لإخلاء بعض الجرحى وجثث الشهداء موقعا ضحايا جددا في صفوف الفلسطينيين.
قبل ذلك أعطى الاحتلال هدنة إنسانية فتحرك صحافيون ومسعفون إلى خزاعة في خان يونس جنوبي قطاع غزة، إذ قصف مكانا لتجمع الصحافيين بأكثر من عشرين قذيفة خلال دقيقة، ولم يستطيعوا الخروج إلا بعد التنسيق مع الصليب الأحمر، ما خلف آنذاك عشرة شهداء، فيما سارع الصحافيون إلى النجاة بأرواحهم. ويروي أحدهم أن من كان يسقط على الأرض جريحا لا يكاد يجد من يسعفه، وخاصة مع اشتداد رصاص القناصة.
وقبل انطلاق المفاوضات في القاهرة كان الاتفاق على أن تجري تهدئة إنسانية لمدة 72 ساعة بطلب من الأمم المتحدة وموافقة الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، لكن المجزرة الإسرائيلية في رفح (جنوب) غيرت المشهد إلى مأساة ادعى العدو أنها بسبب فقدانه جنديا لم تعلن المقاومة مسؤوليتها عن أسره أو علمها بمصيره بعد.
عاد جيش الاحتلال إلى الحدود لحاجته الماسّة إلى التقاط أنفاسه ورصد معلومات وإحداثيات جديدة في القطاع، وتعقّب المقاومين الذين تلقى منهم ضربات موجعة باعترافه، وكان يتوقع أن المقاومة تحت غطاء التهدئة ستبقى مكتوفة الأيدي، أمام أي اختراقات برية تسبق ساعات الهدنة أو تتخلّلها، من واقع أن هذه الساعات مُلزِمة لها بالدرجة الأولى، لكن حدث العكس.
الانتصار المعنوي البسيط الذي أراد الاحتلال اجتراره من وراء التوغّل مسافة كيلومترين ونصف كيلومتر إلى الشرق من رفح لم تبسط فصائل المقاومة الطريق له، بل جيّرته لمصلحتها ميدانياً بعدما اشتبكت مع القوات الخاصة التي مُنيت بخسائر بشرية كبيرة. برغم ذلك انطلقت المفاوضات السياسية، لكن العدو عاد إلى استخدام سياسة الهدنة الإنسانية من طرف واحد، وهو الوعد الذي صار الفلسطينيون يرونه كاذبا بمجرد إطلاقه لتجربتهم إياه أكثر من مرة.
تقول مصادر أمنية إن أي هدنة ذات طابع سياسي يستثمرها الاحتلال لإعادة نشر العملاء على الأرض، وتجنيد أشخاص جُدد لم تُحرق أوراقهم بعد، لكنه يتعمد رفع منسوب التشفي والانتقام من الحاضنة الشعبية للمقاومة إلى أعلى مستوياته، وخصوصاً في اللحظات القليلة التي تسبق ساعة الهدنة أو تتخلّلها مثل ما حدث في سوق البسطات في حي الشجاعية قبل أيام.
يعرف الغزاويون بفطرتهم وتجاربهم أن الهدنة الإنسانية خدعة إسرائيلية

ولا خلاف بين الناس هنا على أن هذه الهدن الإنسانية، وإن استفادوا منها لقضاء بعض حوائجهم، فإنها تكون مجالا لمعاينة حجم الدمار الذي حلّ بأحيائهم السكنية وبناهم التحتية، وهدفه كسر صمودهم وإخضاعهم من أجل الضغط السلبي على فصائل المقاومة، والرجوع بخفي حنين من ناحية شرط إنهاء الحصار.
ويرى الكاتب والمحلل السياسي أكرم عطا الله أن الطرفين كانا بأمس الحاجة إلى مثل هذه الهدنة، «لكن العدوّ الذي يجتاح التطرف جبهته الداخلية، بعدما دخل أمنه القومي انعطافة خطيرة، كان مجبراً على إعادة تحريك جنوده على الحدود، والتوغّل داخل القطاع لبسط سيطرته ولو نسبياً أمام المشاهد الإسرائيلي». ويقول عطاالله لـ«الأخبار»: «المقاومة لم تحسن تقدير الموقف حين وافقت على هذه الهدنة، التي أبقت قوات الاحتلال متمركزة على الحدود في بعض المناطق، لأن سيناريو التوغل أو الاحتكاك المباشر معها يبقى مطروحاً بقوة في مثل هذه الحالة».
في ما يتعلّق بصدقيّة ادعاء الاحتلال بأسر المقاومة أحد الضباط الكبار، يلفت المحلّل في الشؤون الإسرائيلية عدنان أبو عامر إلى أن إنكار «حماس» مسؤوليتها عن عملية الأسر يبقي الإعلان الإسرائيلي في دائرة الشكّ، معللا في حديثه لـ«الأخبار»: «الاحتلال استغل الحدث وخرق الهدنة، وارتكب مجزرة كبيرة».
وما يعزّز هذه القراءة شهادات أهل رفح بانهمار الصواريخ والقذائف المدفعية على منازلهم منذ الثامنة صباحا (قبل موعد بدء الهدنة)، أي قبل الساعة التاسعة والنصف، التي قال الاحتلال إنها موعد تنفيذ عملية أسر الضابط وقتل جنود آخرين عند موقع كرم أبو سالم شرق رفح». هنا تقول المواطنة هاجر حرب لـ«الأخبار»: «تركّز القصف العنيف على الأحياء الشرقية لمدينة رفح عند الساعة (9:55)، لكنه بدأ أصلا في الثامنة».
في هذا السياق، يرى الخبير الأمني يوسف الشرقاوي أن الاحتلال كان ينوي التعامل مع الهدنة الإنسانية كممر آمن لتنفيذ هدنة طويلة الأمد يدمّر خلالها شبكة الأنفاق وإمدادات المقاومة العسكرية تحت الأرض «دون إمكانية للمقاومة بالرد على أي خرقٍ خلال أيام الهدنة الثلاثة». ويقدر الشرقاوي في حديثه لـ«الأخبار» أن القطاع يحتضن شبكة هائلة من الأنفاق التي يعجز الاحتلال عن الوصول إلى فتحاتها الموجودة في أماكن آمنة داخل العمق، «ما يبدّد أحلام الإسرائيليين».
ماذا عن خيار إبقاء قوات الاحتلال على الحدود أطول مدة ممكنة لردع المقاومة عن أداء عملياتها النوعية واستنزاف قدراتها العسكرية؟ يجيب الشرقاوي بالقول: «نحن الآن تماماً أمام ما حدث في جنوب لبنان عام 2006، إذ لن تتمكّن إسرائيل من خوض معركة استنزاف قصوى من الناحيتين البشرية والمادية، وتبقي قواتها على الحدود».
ريثما تضع هذه الحرب أوزارها، ستنسحب القوات من الحدود، وسيجد الجيش نفسه أمام لجنة فينوغراد جديدة، كما يرى الخبير الأمني الذي يشير إلى أن الاحتلال يطمح إلى هدنة غير مكفولة من أطراف دولية، «كما يريد أن يتنصّل من رفع الحصار، وأن تبقى يده مطلقة أمام اغتيال قادة المقاومة، وهو ما يفسّر تشبّث العدو بالوسيط المصري الذي أرجع فصائل المقاومة إلى تفاهمات 2012، ومعادلة هدوء مقابل هدوء، التي لا تجاري مرحلة ما بعد النصر الفلسطيني»، واستدرك حديثه: «مطالب المقاومة محصورة في المربع الإنساني، ولم تطل استراتيجيات بعيدة المدى، لكن ما ينقصها نظام رسمي يطالب بها ويحتضنها بقوة».