غزة | نفضوا عن أجسادهم الغضّة غبار الحرب، هاربين من جحيمها وضوضائها إلى فرح العيد. دارت الأرجوحة بهم قبل أن تدور في فلك الموت. تردد صدى ضحكاتهم الطفولية في السماء ورفع اللهو أجسادهم الصغيرة عن الأرض. لكن جسماً ما محشواً بالحقد شدهم مجدداً نحو الأرض. قذفهم، فيبّس أجسادهم الطرية واضعاً حدّاً لحياتهم.
في أول أيام عيد الفطر، خرجت مجموعةٌ من أطفال مخيم الشاطئ غرب غزة إلى الشمس، ضاربين موعداً مع الفرح المؤجّل. استغل الأطفال الذين لم تتجاوز أعمارهم اثني عشر عاماً ساعات الهدنة في يوم العيد، ليلعبوا. لكن عيد غزّة لم يكن يشبه أيّ عيد. عيدٌ فارغ إلا من الموت. ساحة اللعب التي لجأ إليها الأطفال لسرقة القليل من الفرح وسط كل هذا الموت، حولتها حمم الموت إلى بركة دماء. مزّق القصف أجساد اثني عشر طفلاً منهم ونثرت أشلاءهم في أرجاء المتنزه.

انقهروا لما شافوا أولادنا
طالعين يفرحوا بالعيد وأولادهم في الملاجئ

قبل أن يغدر الموت بفرحهم، قرر الأطفال أن يستريحوا بعد أن أنهكهم اللهو. اتفقوا على التوجه إلى مطعم الشاورما المتواضع في المخيم، على أن تكون نقطة تجمعهم عند أحد الدكاكين. وفيما كانوا ينتظرون صديقهم هناك ليتوجّهوا إلى المطعم، سقط الصاروخ مبدّداً في لحظة كل شيء.
«يابا معيش إلا 14 شيكل، بدي كمان 6 شواكل عشان بدي آكل شاورما أنا وأصحابي»، بهذه الكلمات استهلّ صالح عليان والد الطفل الشهيد جمال حديثه مع «الأخبار»، وعيناه تغرقان بالدموع. لم يكن يخطر ببال صالح أن النقود التي وضعها في يد ابنه جمال ستكون بداية طريقه إلى الموت.
يقول صالح لـ«الأخبار»: «طوال أيام الحرب لم يخرج ابني جمال من المنزل على الإطلاق، لكن ساعات الهدوء وحلول العيد حفزاه على قضاء تلك الأوقات برفقة أصدقائه». في منزله المتواضع، الحزن يجتاح كل زواياه، فيما الأمّ تلوذ بالصمت. يكسر صمتها الانفعال والبكاء الهستيري مجدداً مترافقاً مع هذه الكلمات «يمّا حبيبي وين رحت؟ قلي إنك ما متّش. رد علي يمّا».
أما الوالد الذي يتظاهر بالتماسك قليلاً أمام أقربائه فيكمل حديثه معنا: «ريثما سمعت صوت انفجار هزّ المخيم، سارعت إلى البحث عن ابني، لكنني لم أجده بين الأطفال الشهداء والجرحى. كان كلٌّ من زوج شقيقتي وابنها بدمائهما على الأرض، قبل أن أنقلهما إلى مجمّع الشفاء الطبي لإنقاذهما».
بعد دخولنا منزل عائلة حازم شبير التي فقدت طفليها الشهيدين أحمد (9 أعوام) ومحمود (11 عاماً) في المجزرة. كان كلام الوالد يملؤه الإيمان والصلابة. طوال جلوسنا معه كان يردّد «كلنا فداء المقاومة والوطن، حتى لو صعدت أرواحنا جميعاً إلى السماء. أرض فلسطين تحتاج مثل هذه الدماء والتضحيات. أولادي مسترخون في الجنة الآن، فحمداً لله نموت ونحن رافعون رؤوسَنا».
يدحض شبير رواية الاحتلال بقتل صواريخ المقاومة طفليه الشهيدين، قائلاً: «هذه الادعاءات كاذبة، وكل من يسوّق لها خائن. الاحتلال أطلق صاروخ زنانة أول على الأطفال. وحين حاولوا الهرب، أطلق صاروخاً آخر عليهم»، متسائلاً بحرقة بالغة: «هل كان أطفالنا يحملون الصواريخ والدبابات بأيديهم؟! حسبي الله ونعم الوكيل على إسرائيل وأميركا وكل المتآمرين على غزّة».
أما عائلة ناهض مقداد التي فقدت طفلها محمد، فقد بدا رب الأسرة منهاراً. فيما بدأت الأمّ تقصّ علينا حكاية ابنها وتعدّد مزاياه وذكرياته بلهجتها المحكيّة البسيطة: «كان ابني حالق وماكل ولابس أواعي هالعيد بدو يفرح مع الصغار اللي طلبوا من أمهاتهم ثمن الشاورما. واحد منهم صار بطنه يجعه وطلب منهم يستنوه». وتتابع الأمّ وهي تلهج بالبكاء: «لسّا ما راح الولد شوي، إلا الصاروخ نزل عليهم وفتفتهم. انقهروا لما شافوا أولادنا طالعين يلعبوا ويفرحوا بالعيد، وأولادهم في الملاجئ».