غزة | لم تكن غزة هي من صنعت حصارها. بل هي من حاولت أن تصنع حريتها، فاصطنعوا لها حصارا يمنعها من حريتها. يحاولون اليوم أن يقولوا إن غزة «دفيئة إرهاب» لأنها اختارت أن تنتخب «حماس» في انتخابات نادى بها العالم ورعاها الغرب، فلما جاءت نتيجتها حاصروها. رفضت غزة حصارها واستمسكت بخيارها فقالوا عنها إنها «عنيدة».
فعليا، تعترف غزة بأنها عنيدة، وتفخر علنا بأنها عصية على الانكسار أمام الضغوط الخارجية التي تستهدف إرادتها. منذ أن حاصروها تسلحت لكسر حصارها، لكنهم حاربوها لكسر سلاحها الأقوى (إرادتها)، فحاربتهم. حاربوها موحدين، فتمترست غزة بصمتها المعروف، وعضت على نواجذها مثل ليث محرور واستندت إلى جدار من العزم ورمتهم جميعا عن قوس واحدة كأنها إسبرطة العصر الحديث.
فتيان غزة اليوم لا يعشقون شيئا مثلما يعشقون كسر إرادة محاربيهم جميعا. فهم وهي قرروا كسر كل هذه الجيوش المتحالفة، ولو أدى ذلك إلى فنائها. ولسان حالها يقول: الحرية أو الموت. في غزة اليوم لا تجد من يقبل العودة إلى ما قبل الحرب. رئيس المكتب السياسي لـ«حماس» مشعل شخصيا، وكل قادة الدنيا معه لا يجرؤون على مطالبة غزة بقبول وقف النار. فهم يعرفون من تجربتهم أن غزة سوف تواصل حربها حتى لو كانت وحيدة، وذلك إلى أن يقرر العالم الاستماع إليها. لكن، ماذا ستقول غزة لو استمعوا إليها؟
ـ غزة تريد رفع هذا الحصار بالقوة. نعم بالقوة.
ـ غزة تريد فتح معبر رفح وفق ما يقرره القانون الدولي، وترفض هذا الحصار المصري الذي تراه جزءاً من المؤامرة، إذ لا يعقل أن يُقال إن بلدا يتحكم في منفذ وحيد يستطيع أن يغلقه في وجه جيرانه لمجرد أن نظامهم السياسي لا يعجبه!
ـ غزة لم تعد «برذعة واطية» يركبها كل من لم يستطع أن يقفز فوق الحمار. فليذهبوا إلى الحمار العربي ليمتطوه. هكذا تقول غزة في حربها، فقد غدت الآن فرسا حروناً تشجّ قفا وجبين كل من يفكر في امتطائها. هي تعلن أنها تصنع من شبابها وسلاحها، درعا وسيفا يسوط كل من اقترب منها بغير الحب. وهي في حربها اليوم تواجه كل الساسة الإسرائيليين وحلفائهم العرب، وتسعى إلى منعهم بعد اليوم من أن يهاجموها كلما وقع أحدهم في ورطة حزبية.
ـ غزة لا تحب، ولا تريد، أن يهاجمها كل من شعر بأنه يستطيع ذلك لمجرد أنه يريده. لعلنا نتذكر جيدا أن الإسرائيليين كانوا قبل اليوم يهاجمون القطاع مرة كل عامين كأنهم ذاهبون إلى زيارة منتجع. أما حرب اليوم، فتقول: «لقد انتهى هذا العصر أيها الأوغاد».
ـ غزة لها منفذ بحري تريد أن تحرره، وسوف تحرره بالقوة، لتتصل بالعالم مرة أخرى، وليذهب كل محاصريها إلى الجحيم.
ـ غزة تريد أن تبني جيش التحرير الفلسطيني مرة أخرى، وعلى أسس جديدة تكفل له واجب الدفاع عن الشعب الفلسطيني، كما كان الأمر عليه أول مرة، قبل توقيع «معاهدات الاستخذاء المعروفة».
ـ غزة تريد، وهي مصممة على ذلك، أن تكسر هذا الحصار المالي الأميركي ـ العربي عليها، لتستطيع أن تبني مستقبلها، بعيدا عن هيمنة واشنطن، وأداتها الإسرائيلية.
ـ غزة تريد أن تعلم الشعوب الصغيرة، أن باستطاعة الإرادة الحرة لشعب حر، أن تواجه كل قوى الهيمنة والاستكبار، ثم يبني الشعب مشروعه الطموح في الحرية والتنمية والبناء.
ـ غزة تريد هزم «أوسلو» وما فرخ من ذل وقهر وتبعية، وخصوصا أنها ترى الطرف الآخر (الضفة المحتلة) تمزقه تبعات الاتفاق كل يوم. لقد بات من حق غزة أن تقذف في وجوه الأعداء قفازيها، فلقد غدا لها محاربون يستطيعون بالفعل أن يقذفوا بالقفازات.
ـ غزة ليست في عجلة من أمرها في هذه الحرب المفروضة عليها. فقد جاؤوا إلى الحرب راغبين، ولن يخرجوا منها إلا عندما تقرر غزة ذلك. إنها تريد أن تقول للعالم، من دون العرب جميعا، إن «الخروج من الحمام لا يمكن أن يتوافر لمن دخله إلا بشرط صاحب الحمام»، فكيف بحمّام الدم؟
ـ غزة تريد ضامنا دوليا، غير عربي، لكل شروطها، فقد أثبت الضامن المصري أنه منحاز إلى العدو. ولعله لم يعد مستغربا أن تطلب غزة ضمانة صاحب الشرطة الأميركي، لأنه الأقدر على لجم صبيه المعتدي، لا رغبة، بل رهبة من دفع الثمن الذي ستحرص غزة على أن تقتضيه كاملا، عند الضرورة، غير منقوص.
ـ غزة تريد أن ينكسر هذا الحصار البحري بما اقتضته اتفاقية التهدئة الماضية، التي مزقها غرور الإسرائيلي وتآمر الشقيقة الكبرى، وذلك بما يتيح لها حرية الصيد والإبحار وارتياد العالم مرة أخرى.
ـ غزة لا تفرط في أسرى الشعب الفلسطيني، فلقد مضى زمن رأى فيه الإسرائيليون أن الأسرى مكتوب عليهم أن يقضوا في سجونهم. غزة ستحرر أسراها بالقوة في كل مرة تقف فيها الجدران من دون إرادتها. وأول الغيث الإفراج فورا عن كل المحررين الذين جرت إعادة اعتقالهم بعد تحريرهم في صفقة جلعاد شاليط.
هذه هي شروط المحارب الغزاوي الذي لم يعد في عجلة من أمره، لذلك على خالد مشعل ورمضان عبد الله أن يتمهلا في عقد أي هدنة، فنحن لسنا متعجلين.
يا أبا الوليد: أنت محاط بالأعداء، فمهلا حتى تنكسر المؤامرة، وثق بأن من يسعون إلى إقناعك هم في الجانب المقابل. دعهم يحترقون قليلا فغزة تقاتل على أقل من مهلها.