غزة | يبدو أنه ليس هناك منطقة حيّدها الإسرائيليون من القصف في قطاع غزة. لم يسلم بيت أو مسجد أو حتى مستشفى من القصف الجوي والمدفعي. ومع استهداف المدارس وأماكن الإيواء، يمكن القول إن إسرائيل تستهدف كل شيء. مع ذلك، تدفع الحياة والخوف على الأطفال الناس إلى البحث عن مأوى، ما يزيد عدد النازحين بصورة مجنونة، وهو كان قبل مجزة الشجاعية 67 ألفاً ثم تضاعف العدد وفق الإحصاءات الرسمية.
هذه الأعداد من النازحين لا تضمن الحفاظ على سلامتها في المناطق التي هربت إليها في ظل ظروف إنسانية صعبة في تلك الأماكن، ولا قدرة لمن غافلته الحرب بعد أزمة اقتصادية عمرها سنوات على الاستئجار الذي ارتفعت أسعاره كما يريد «أمراء الحرب». أما المدارس التي يمكن لأهالي المناطق المنكوبة اللجوء إليها بعيداً قليلاً عن الحدود فصارت ممتلئة عن بكرة أبيها. داخل كل صف مساحته ستة أمتار في خمسة أكثر من 7 عائلات، في حين تفترش الأخرى ساحات المدارس وبواباتها. ورغم الخطر المنتشر، فقد نزح آخرون إلى ساحة الجندي المجهول وسط غزة، وهربت بقية أخرى إلى ساحة الكتيبة غرب المدينة، وكلها مناطق معرضة للقصف في أي لحظة.

لم تعد المساجد والمستشفيات والمدارس أماكن آمنة من القصف

في لحظة ما وجد النازحون أنفسهم أمام كنائس غزة. فإلى كنيسة القديس «برفيريوس» في منطقة الساحة القريبة من الشجاعية هربت عشرات العائلات المنكوبة من ذلك الحي بحثاً عن الأمان. لم يمض وقت حتى فتحت الكنيسة أبوابها لتستقبل العائلات داخلها وتحتضنهم، موفرة لهم المأكل والمشرب وبعض الأغطية.
الراهب أنطوان جريس الجلدة دأب مع عدد من المسيحيين المواظبين على الصلاة في الكنيسة على العمل لساعات من أجل تأمين الحاجات اللازمة، في ظل الأوضاع الخطيرة وصعوبة الحركة. يقول لـ«الأخبار»: «نقدّر ما تمر به هذه العائلات التي قصفت بيوتها بوحشية في منتصف الليل وهربوا من الموت الذي طاردهم». ويضيف: «هذه العائلات عاشت حالة من الحيرة، فهي جرّبت الهرب إلى مدارس وكالة الغوث، لكن الأخيرة معرضة للقصف، كذلك قتل منهم آخرون ذهبوا إلى مناطق وبيوت أقربائهم ظناً منهم أنها آمنة... نتمنى أن تظل الكنيسة آمنة على أرواح أشقائنا المسلمين».
أحد الذين أووا إلى الكنيسة يدعى محمد قيطة وقد نجى بعائلته من مجزرة الشجاعية، ولم يكن أمامه إلا أن يحمي أطفاله داخل الكنيسة، خصوصاً أن امرأته تضع بين يديها طفلاً رضيعاً عمره سبعة أيام. ويقول، وصراخ الطفل يعلو مع مرضه، إنه يخشى الذهاب إلى المستشفى لعلاج ابنه خوفاً من أن تكون ساعاته الأخيرة في الطريق إليه بسبب شدة القصف.
عن رحلته إلى الكنيسة يروي أنه وصل إليها بعد عبوره الزقاق الضيق عبر حي الزيتون بعد أن تخطى الشجاعية، مضيفاً: «حين وصولنا الكنيسة خرج الحارس مسرعاً على الباب لسماعه صراخ طفل صغير، ثم دخلنا وأحضر لنا طبيبة تقطن قريباً من المنطقة، لكنها خاطرت بحياتها أيضاً لتنقذ ابني».
أما جميل سكافي الذي نجا بأعجوبة من «طريق الموت» المليئة بالجثث، فلا يزال يستحضر مجرزة صبرا وشاتيلا من ذاكرته لينسى ما رآه واقعاً. ويقول: «قبل حوالى 32 سنة شهدت بأم عيني صبرا وشاتيلا، وخلال مجزرة الشجاعية بدأت الذكريات ترجع إلي كأني كنت في ذلك الوقت، وبدأت أتذكر والدي وأخي وأفراد عائلتي الذين قضوا يومها ونجونا من هذا المصير». واستدرك حديثه مع «الأخبار» ليشير إلى أن صديقاً مسيحياً له اتصل به ليطمئن عليه، ثم أخبره أنه يمكنه أن يأتي إلى الكنيسة التي فيها عدد من العائلات، وهذا ما جرى مباشرة، كما يقول.
مدير العلاقات الدينية في كنيسة «برفيريوس»، جبر الجلدة، أكد أنه عمل على جمع المال ليوفر لهم وجبات الإفطار والسحور للنازحين، ليس فقط من الطائفة المسيحية بل من أي عائلة أو جهة أمكنها أن تساهم. ويقول لـ«الأخبار»: «لم يعد في غزة أي مكان آمن، فكل المناطق مستهدفة».
وأشار الجلدة إلى أن الكثير من العائلات لم تتجه إلى المدارس والمساجد التي يجري استهدافها في كل حرب، فضلاً عن أن بعض الأماكن صارت ممتلئة ولا تستوعب وجودهم.