غادرَنا فجأة المجاهد المؤمن الفذّ المهندس، ليث شبيلات، بعدما كان قد أتحفَنا منذ أيام بشريط تحدّث فيه عن يوم مولده الذي تزامن مع ذكرى اغتيال وصفي التل (اغتيل في 28 تشرين الثاني 1971)، أي بعد «أيلول الأسود» بعام وشهرَين. وإنْ كان دفاعه عن التل لم يَرُقنا، ولكن يشفع للراحل الكبير أنه يعرفه معرفة شخصية، فيما نحن نعرفه من خلال الإعلام، ومن خلال أخصامه... والله أعلم. ليث شبيلات نسيج يختلف عن أقرانه. لقد أثرى الدعوة الإسلامية بنموذج مميّز، حيث استفاد من تجربته السابقة قبل التحوّل إلى الإسلام الدعوي والسياسي، واستفاد من انتمائه إلى عائلة مرموقة، إذ إن والده كان دبلوماسياً فذّاً مقرّباً من الملك حسين رحمه الله، فضلاً عن عشيرته المهمّة.
ولا يمكن أن ننسى موقفه المميّز عندما انتقد بشكل لاذع بكاء «الملك والملكة» على إسحاق رابين، واستحقّ لذلك السجن مرّة أخرى، كما سُجن يوسف عليه السلام وكبار علمائنا في التاريخ.
وفي خضمّ المعركة المعنوية مع التطبيع، لم ينسَ أن يَذكر الملك حسين بخير، إذ ذهب الأخير إلى السجن بنفسه، وتابع أوراق الإفراج عنه، وأوصلَه إلى بيته وهو يقود السيارة، وزار أمّه خلال وجوده في السجن، وكأنه بذلك ينطق بقوله تعالى: «ولا يجرمنّكم شنآن قوم على ألّا تعدلوا...».
من دون أدنى شكّ، يحتاج الإسلاميون إلى مِثله في كلّ ساحة، حيث يستطيع بشخصيّته المميّزة وثقافته وتجربته الغنية أن يقدّم شيئاً جديداً، وأن يُحدث صدمة إيجابية في المياه الراكدة للدعوة الإسلامية، ويزيل بعض الصدأ عن بعض العقول التي جمدت عند مرحلة ما من التاريخ القديم أو الحديث. فلقد كانت معارضته لـ«اتفاق وادي عربة» مميّزة، حيث صمت الإسلاميون، ومرّ الاتفاق «بهيبة الملك» كما كان يقول دائماً، وسكوت الإسلاميين.
ترحل يا أبا فرحان وأنت تقول: أكاد لا أستطيع أن أقنع أحفادي بأفكاري، فالأيام تتبدّل وتتغيّر. أقول لك، في عليائك، إن شاء الله نَمْ مطمئناً، الجيل القادم سيكون أوعى من السابقين، ودليلنا الساطع ما يحصل في نابلس وجنين، وما يعنيه هذا التشكيل الجديد المسمّى «عرين الأسود». أنت ليث وهم أسود، لا يختلفون عنك إلّا بالآلة، فموقفك ولسانك وتجربتك تدلّ على بأسك وحنكتك، وهم يحملون السلاح ويبتكرون أساليب متجدّدة للمقاومة.
وليس بعيداً عن ذلك، يوم أرسل لسماحة السيد حسن نصر الله رسالة يعاتبه فيها على الانخراط في الحرب على الإرهاب في سوريا، وكان منطقياً جدّاً - وفق ما تَوافر له من معلومات - في ذلك الموقف، ثمّ ما لبث أن تراجَع وقد اتّضحت الأمور للقاصي والداني على حدّ سواء.
بكلّ بساطة، «امتدح بشكل أو بآخر النظام الملكي الأردني»، ولمّا وُجّهت إليه سهام النقد، قال: هل جمهورياتكم المزعومة إلّا ممالك؟ هل هنالك رئيس سابق؟ لا يوجد إلّا رئيس راحل، كالملوك تماماً، تختلف الأسماء وتسقط. كان هذا طبعاً قبل الخريف الأميركي المسمّى «الربيع العربي».
لن تخلو الساحة من أمثالك بإذن الله، ليثاً ضروساً حيث ينبغي، وفَرس رهان عندما يقتضي الأمر، ونسراً أو صقراً يراقب بعين ثاقبة وترقّب وصبر يعزّ على غيره.
معارض لطغيان الملوك والرؤساء والحكومات، ثمّ معارض للمعارضة الضعيفة والمتردّدة والمتناقضة مع نفسها، ثم معارض للشعب المستسلِم للطغيان وسطوة الملوك والحكّام، وكان مميّزاً في ذلك.
رحمك الله رحمة واسعة ورزقنا الله بأمثالك حتى تستقيم الأمور.

* رئيس «الاتحاد العالمي لعلماء المقاومة»