طنجة ــ وصال الشيخعلى غير هدى كنت أمشي في الشوارع، قلت لنفسي ربما أتأقلم هكذا مع روح المدينة. لكن، كان هناك شيء ما ينخز الروح ويبقيني على الحياد. أحمي نفسي من السقوط بغتة في هوى مدينة لم تستقر يوماً في تاريخها على هوية. ربما عليّ أن أخوض صراعاً مع نفسي كما خاضت هي في الماضي، وفي النهاية أصبح لها هوية.
هويتي أنا واضحة، فلسطينية المنشأ والتكوين والقضية وتراب جسدي حصري يعود لقرية من قرى مدينة جنين شمال الضفة الغربية. طوال خمسة أشهر، كنت أبحث ولا أزال عن مكونات هذه العلاقة. وجدت بعضها متناثراً هنا وهناك، ووجدت بعضها الآخر عن طريق الصدفة، أما غيرها فوجدته بعد جهد طويل من السعي والبحث. قد يكون هذا البحث على شكل حديث مع صديق اكتشفته للتوّ يشاركني القلق نفسه على المدن، وخاصة تلك التي تكبر بسرعة كمدينة طنجة.

طنجة تختلف مثلاً عن بيروت أو دمشق أو سوريا أو عمان، هذه المدن قريبة لفلسطين جغرافياً وفكرياً وبشرياً. أما طنجة البعيدة فلا تشترك مع فلسطين إلا بآخر رمق من البحر المتوسط، وبعدها ينفصلان. أتمنى ألا تأخذني هذه المدينة بهذا المأخذ، نصف رمق وبعدها أتحلل من فلسطينيتي. هذا قلقي الدائم.
انتقلت إلى طنجة في موسم الشتاء وسكنت فيها، كان شتاءً مبتوراً تنقصه رائحتا التراب والخبز، ورائحة كانون الفحم كذلك وصحن العدس «المجروش» وصوت المزاريب، في قريتي كانت حدودي مثلاً البيت وحاكورته، و«الخبصة» التي تلي زيارتي لها خلال فصل الشتاء لأتفقدها وأتابع نموّ الزعتر أو السبانخ أو غيرها من البقول، أو أملأ «شوال الفحم» وأعود. والحدود تتسع بزيارة بيوت الأقارب والجدات والجارات اللواتي يحلفن بأن الشاي جاهز للشرب، فيجب عليّ الدخول وتخطي عتبة الدار، وأطيب الشاي ما كانت تعدّه زوجة خالي بإضافة ورق الليمون الأخضر إليه.
انتهى الشتاء هنا ولم أعثر على شيء، سوى أن رائحة الشاي «الأتاي» المغربي بالنعناع بدأت تأخذ محلها أيضاً في الذاكرة، أهي مكونات ومعالم جديدة؟ هل يجوز للإنسان أن يختار في حياته وطنين؟

رائحة الشاي المغربي بالنعناع بدأت تأخذ محلها
أنا المحظوظة بفلسطين، وأعني أكثر الياسمين الذي كان ينمو في حارتنا، الياسمين الذي يدلّ علينا ويذكرنا ببعضنا البعض، الياسمين علامتنا في ليالي الصيف والأنس فوق أسطح منازلنا وأحاديث الحيّ المنتشرة في الهواء عندما يحلّ الصمت أو الركون إلى حضن الليل، لا ندع الياسمين وحده يخترق مسام جلدنا، كان موسم نضوج «الجرنك» أي البرقوق يحلّ بحلول الصيف ورائحة الياسمين.
أنا المحظوظة مرة ثانية عندما مشيت منذ أسبوعين تقريباً من شارع يوسف بن تاشفين في طنجة، وصولاً إلى شارع المكسيك، شيء ما صدمني ولأجله وقفت في الشارع المزدحم بالناس والسيارات، كانت ياسمينة ساحرة تطلّ بجانبها من كنيس يهودي. تخشبت في مكاني والناس تمّر من أمامي. فكرت في كيفية الوصول إلى الياسمينة، وخصوصاً أن ذلك الكنيس يبدو كمقبرة أو كمكان مرصود، لكن في ما بعد تلقفتني ياسمينة أخرى في شارع مختلف تماماً. الياسمين جاء لرحمة الذاكرة من التوجع.
ولكي «أنبثق» من جديد في هذه المدينة، والانبثاق كلمة ترتبط بطائر «العنقاء» الأسطوري، عليّ أن أطلب من حارس الياسمينة أن يقتطع لي غصناً سأبدأ برعايته في بيتي الى أن يكبر. وسأبدأ مثله من ذاكرة وطني ثم أضيف مقادير من مدينتي الجديدة.