ينطلق المغتربون من الطلاب والعمال الغزيين من مثل شعبي يقول: «الموت مع الجماعة رحمة»، ليصفوا حالهم في أيام الحرب الثالثة على قطاع غزة. هؤلاء الذين سنحت لهم الفرصة الضيقة بالخروج من القطاع يتمنون لو أنهم بجانب عائلاتهم خلال القصف. رغم أنها أمنية تنافي المنطق لجهة بحث الإنسان عن المأمن، فإنها تنطلق من شعور القلق الذي يجعل هؤلاء يعيشون يوميات الحرب بأدق تفاصيلها.
متسمرين أمام الشاشات، يتابعون الأخبار لحظة بلحظة، وعيونهم على الحاسوب إلى حين أن تظهر العلامة الخضراء (أون لاين) لحساب العائلة عبر أي وسيلة للتواصل الاجتماعي كي يشفوا غليل انتظارهم ويطمئنوا على ذويهم. ومنهم أيضاً من يعتبر هذه الحرب هي الثانية أو الثالثة التي تحدث في غربته عن أهله، ما يزيد الصعوبة عليهم ويقلل ساعات نومهم التي تذهب مقابل السهر خوفاً من خبر يفجعهم بقريب أو صديق، كما حدث مع بعضهم. وليس أسوأ من شعور العجز عن فعل شيء أمام الجغرافيا والبعد.
يقول الطالب محمد زينو الذي يدرس في تركيا إنه عاش مع أهله الحرب الأولى 2008 ويدرك جيداً كيف تكون يوميات الفلسطينيين في الحرب. ولا يبالغ بالوصف حين يشير إلى أنه يشعر بالرهبة عندما تمر طائرة مسافرين مدنية من فوق مدينة اسطنبول، لتقفز إلى ذاكرته الرهبة نفسها التي تصيب أهله أو الناس في غزة حينما يسمعون صوت الطائرات الحربية وغاراتها المكثفة والمتواصلة. ويضيف لـ«الأخبار»: «في الوضع الطبيعي، كنا نقلق على الأهل، لكنهم يحاولون تهدئتي وإشعاري بأن الجو عادي»، مستذكراً أنه في اليوم الثالث للحرب الجارية سمع خبراً عن قصف مجاور لمنزلهم، لكنه خلال اتصال مع والدته مازحته بالقول: «ها نحن نعدّ القطايف وهم يعدّون الصواريخ».
الهمّ نفسه يشاركه المغترب سالم النواتي في الإمارات، فهو يرى أن متابعة الحرب من خارج غزة أصعب من داخلها بسبب الفارق الزمني في نقل الحدث وكل المعلومات المتعلقة به. ويذكر لـ«الأخبار» أنه حينما ينزل إلى الشارع ويرى الناس في حالة طبيعية، تتسارع إلى عقله المقارنة بين ما يعيشه الناس في الإمارات وبين غزة، فضلاً عن أن فتور التعاطف العربي مع فلسطين يزيد شعوره بالغربة أكثر، «ما دفعني إلى أخذ إجازة من العمل لأربعة أيام».
قضية أخرى يعانيها المغتربون وترتبط بالحوالات المالية التي يرسلها العاملون منهم إلى عائلاتهم، أو التي يرسلها الغزيون إلى أبنائهم الطلاب في الخارج. منذ اللحظة الأولى للحرب، أقفلت البنوك التي كانت تعاني أزمة تتعلق بالرواتب قبل ذلك، زيادة عليه توقف خدمات الحوالات المالية مع إغلاق محال الصرافة أبوابها خوفاً من القصف أو السرقة في ظل الحالة الأمنية غير المستقرة. كل هذا أدى إلى صعوبة نقل الأموال لجهة الطلاب الذين يستعدون لاستقبال فصل جديد، أو لجهة الغزيين في ظل أوضاع الحرب وتكاليف شهر رمضان الخاصة.
وتتكرر حالة القلق مع الطالب عبيدة زين الدين (تركيا) الذي عاش الحرب الأولى 2008 والثانية 2012 في غزة قبل سفره لإكمال دراسته. ويصف مشاعره بالمختلطة ما بين «الخوف على الأهل» و«الطمأنينة إلى أنه خارج النار»، مع ذلك يعبر عن شعور مشترك بتمني وجوده في غزة خلال الحرب، مضيفاً: «هناك ستقنع نفسك على الأقل بأن الموت مع الجماعة رحمة». في المقابل، يقول إن ما يجبر خاطره هو أخبار الصواريخ الذاهبة إلى «أراضينا المحتلة منذ عام 1948، ما يشعرنا بالفخر، وخاصة في مسيرات التضامن التي نظمناها، وصرنا فيها نحدث رفاقنا من الجنسيات الأخرى عن الحرب في غزة وظلم إسرائيل وتضحيات شعبنا».
المشهد هو نفسه في أكثر من عاصمة. فمن طهران، يقول الطالب علي ماهر إنه لا ينفك يتابع التلفاز على مدار ساعات كثيرة، مع أن ذلك يؤثر على دراسته. ومن برلين يحكي الطالب فراس برقوني أن أكبر قلقه كان من عملية برية في غزة، لكنه مطمئن إلى قدرة المقاومة على حماية الناس».
ويمكن رصد كتابات كثيرة للمغتربين عبر التواصل الاجتماعي ضمن جزء من حالة التفريغ النفسية أو التعريف بالقضية عبر لغات أخرى. وكتب طالب الدراسات العليا في لندن، سليم لبد، قائلاً: «هذه الليلة لم أستطِع أن أتمنى لأهلي السلامة. قالت لي أمي: لا أحد يعرف من الآتي في الدور بعد الآن... ارتجف قلبي وانعقد لساني ولم أستطِع أن أقول لها: لن يكون دوركم، فأدفع بهذا عنهم الموت إلى آخرين لهم حصة الموت نفسها!». وأضاف لبد معلقاً على فتح معبر رفح للجنسيات الأجنبية والمصرية دون الفلسطينيين بالقول: «الفلسطينيون، لهم أن يموتوا فقط، كيف لا وكل هذه الحرب قائمة لإبادتهم؟ ليست هذه دعوة لتسهيل خروج الفلسطينيين من غزة، لكنه تساؤل عن مدى العنصرية والفوقية التي يتعاملون بها مع الفلسطينيين»، مضيفاً: «لم تتأهل أمّ الدنيا لكأس العالم وتمُنّ على العرب بهذا الإنجاز العظيم، لكن الشقيقة الكبرى تستطيع الآن أن تمُنّ على الفلسطينيين ببعض الدقيق والزيت، وبعنايتها بالأجانب في غزة».

(الأخبار)