لا يبدو أن التحرّكات التركية الأخيرة في الشمال السوري، ستردع الولايات المتحدة عن محاولاتها سحْب بساط المعارضة من تحت أقدام حليفتها، وفق ما يُنبئ به سعيها إلى إنشاء تكتّل سياسي معارض، من المنتظر أن تلعب وجوه سوريّة كانت قد ابتعدت عن الساحة في الفترة الماضية، دوراً فيه. ويأتي ذلك فيما تُحاول أنقرة الالتفاف على الضغوط الأميركية المباشرة على مشروعها القاضي بتوحيد مناطق سيطرة الفصائل المُوالية لها تحت قيادة أبو محمد الجولاني، عن طريق توسيع حضورها العسكري، ووضع حدّ للمواجهات بين «هيئة تحرير الشام» والجماعات المُنافسة لها
لا تريد تركيا، التي تحاول جاهدةً استثمار جميع المسارات السياسية والميدانية لخدمة مشروعها القائم على أساسّين اثنَين: التخلُّص من عبء اللاجئين السوريين؛ وإبعاد «الخطر الكردي» عن حدودها، أيّ تشويش حاولت، وما زالت تحاول، الولايات المتحدة ممارسته على خطواتها. وإذ تَصدّر تلك المحاولات التواصلُ مع فصائل موجودة على الأرض، أبرزها «الجبهة الشامية» التي ترى في نفسها الكيان الموازي لـ«هيئة تحرير الشام» (جبهة النصرة سابقاً)، والأكثر قابلية للتسويق بسبب ماضيها البعيد عن تنظيم «القاعدة»، فقد دفع ذلك أنقرة إلى الإسراع في فتح الأبواب أمام زعيم «النصرة» للتمدّد وقضم مناطق في ريف حلب الشمالي، كان أبو محمد الجولاني أعلن مراراً رغبته في السيطرة عليها، سواءً بهدف توسيع حدود «إمارته» التي يتّخذ من إدلب معقلاً لها، أو بغرض السيطرة على مصادر تمويل جديدة تدرّ عليه أرباحاً كبيرة، أبرزها معابر التهريب.
وتَرافق التحرّك التركي الأخير مع محاولات روسية - إيرانية للدفْع نحو حوار سوري - تركي مباشر يُفضي إلى تطبيع العلاقات بين البلدَين. على أن هذا الحوار لا يزال، إلى الآن، يُراوح في إطار النقاشات الأمنية، في ظلّ تمسّك دمشق بمجموعة من الثوابت، أبرزها سحْب تركيا قوّاتها من الشمال، ووقْف دعمها الفصائل المسلّحة، بالإضافة إلى قضايا تتعلّق بالمياه. ومع ذلك، أقدمت أنقرة على جملة خطوات في سياق إظهار «حُسن النيّة»، أبرزها تثبيت معابر دائمة (لا تزال قيد الإعداد)، وزيادة كميّة المساعدات المرسَلة عبر خطوط التماس (من مناطق الحكومة السورية)، والتي تمّت جدولتها على أساس إرسال قافلة كلّ شهر، آخرها واحدة أُدخلت يوم السبت، على حساب المساعدات الأممية عبر الحدود، والتي كانت تدْخل إلى إدلب من تركيا. وأنبأت تلك الخطوات، على تواضعها، بأن تركيا تريد نوعاً من «التعاون» مع الحكومة السورية من أجل تحقيق هدفَيها المذكورَين أعلاه، خصوصاً أن ثمّة أرضيّة مشتركة بين الجانبَين، عنوانها رفض الوجود العسكري الأميركي الداعم لإنشاء كيان كردي مستقلّ.
تُظهر نظرة إلى الواقع الميداني استمرار وجود مسلّحي «تحرير الشام» في المناطق التي دخلوها أخيراً


إزاء ذلك، سارعت الولايات المتحدة إلى العمل على التأسيس لمسار ميداني وسياسي جديد حول سوريا، يهدف في المقام الأول إلى إفشال «المسار الروسي للحلّ»، والذي يشكّل التقارب بين دمشق وأنقرة إحدى نتائجه. ولذا، فهي حاولت، ابتداءً، استمالة «الائتلاف السوري» المعارض، وقيادة نشاطاته في المحافل الدولية، لتردّ تركيا على ذلك بالتضييق مالياً على «الائتلاف»، وتوجيه تحذيرات واضحة إليه من الارتماء في الأحضان الأميركية. وإلى جانب محاولة اختراق الميدان شمالاً، سواءً عبر دعم بعض الفصائل، أو عن طريق الإغراءات المالية التي طرحها وفد من المستثمرين الأميركيين من أصول سورية بعد استثناء بعض المناطق من عقوبات «قيصر»، دعمت الخارجية الأميركية نشاطاً جديداً لمجموعة من الأميركيين من أصول سورية لإنشاء تجمّع جديد، عَقد اجتماعه الأول في شهر أيلول الماضي، فيما يجري حالياً التحضير لعقْد اجتماع ثانٍ موسّع يضمّ ممثّلين عن «الائتلاف»، وآخرين عن «مجلس سوريا الديموقراطية» (الذراع السياسية لقوات سوريا الديموقراطية - قسد). وسيكون هذا اللقاء العتيد الأوّل من نوعه الذي يَجمع القوى الكردية وبقيّة أطراف المعارضة، فيما تأمل واشنطن من خلال فتْح الأبواب المغلَقة بين مناطق سيطرة الطرفَين. ومن أجل استكمال الصورة، وبهدف منْحها بعداً سياسياً، تستعين الولايات المتحدة بمجموعة من الوجوه السورية المعارضة التي نشطت خلال السنوات الماضية قبل أن يتمّ تهميشها، من بينها رئيس الوزراء السوري الأسبق المنشقّ، رياض حجاب، الذي أجرى لقاء مع المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا، نائب مساعد وزير الخارجية الأميركي إيثان غولدريتش، في العاصمة القطرية الدوحة، ذكرت الخارجية الأميركية أنه تمحور حول سُبل دعم واشنطن لـ«العملية السياسية من أجل التنفيذ الكامل لقرار مجلس الأمن رقم 2254».
أمام هذه المناكفة، وفي محاولة من أنقرة للالتفاف على الاتهامات التي بدأت تَسوقها واشنطن لها على خلفيّة تعاملها مع «هيئة تحرير الشام» المُصنَّفة على لوائح الإرهاب العالمية، أنهت تركيا حالة الاقتتال الدائرة في الشمال، وبدأت تروّج لانسحاب الجولاني من المناطق التي دخلها أخيراً وعودته إلى إدلب. وتَرافق ذلك مع نشْر مزيد من القوات وإنشاء نقاط عسكرية تركية إضافية، إحداها عند الحدود الإدارية بين إدلب وحلب، وإنشاء آلية إدارة جديدة للمنطقة تلعب فيها مجموعة من الفصائل موثوقة الولاء لأنقرة (هيئة ثائرون) دور «قوّات الفصل»، وهو ما يستهدف الأتراك من خلاله ضمان استمرار قبضتهم على ريف حلب من جهة، والتخلّص من عبء «دعم الإرهاب» الذي رماه الأميركيون عليهم، من جهة أخرى.
إلّا أن نظرة إلى الواقع الميداني في ريف حلب، تُظهر استمرار وجود مسلّحي «تحرير الشام» في المناطق التي دخلتْها «الهيئة»، تحت عباءة أمنية، في ظلّ إجراء القوات التركية سلسلة عمليات أمنية تهدف إلى ضمان التهدئة، وقمع أيّ تحرّك مدعوم أميركياً لزعزعة الأوضاع الراهنة، وفق مصادر ميدانية معارضة تحدّثت إلى «الأخبار». وتفيد المصادر بأن الاجتماعات الأمنية والعسكرية التي عقدها ضبّاط أتراك مع ممثّلين عن الفصائل، تخلّلها توجيه رسائل واضحة بضرورة الحفاظ على الهدوء، وعدم محاولة تغيير الوقائع، عادّةً الوضع الحالي «مجرّد هدوء مؤقّت ستتبعه خطوات لاحقة تضْمن قضم الجولاني للشمال السوري كاملاً بشكل غير مباشر، ومن دون تورّط تركيا في قضية دعم الإرهاب»، لِمَا يوفّره زعيم «النصرة»، مضمون الولاء في الوقت الحالي بالنسبة إلى أنقرة، من فرصة لضبط الأمن، والتخلّص من الأعباء المالية الكبيرة التي تُحمّلها الفصائل لتركيا بشكل دوري.