عقود تراكمت على بدء النضال الفلسطيني، تبدلت فيه وسائل تعبير المجتمع عن ذاته وتطورت، وصولاً إلى وسائل التواصل الاجتماعي على الإنترنت. إلا أنه وحين الحديث عن الشعب الفلسطيني لا تمسي الأدوات والرموز الوطنية انعكاساً لوجود موجود كأي مجتمع آخر، فعلاقة الفلسطيني وتحديداً المخيمات مع الرموز الوطنية والنضالية، ليست علاقة شعب يحتفي بتاريخ أو حتى حاضر أرض يقطنها. فالوطن لا وجود له، فقد هُجّر وطُرد منه وسرقه الاحتلال، الأمر أشبه باحتفاء بفكرة، بالعودة للوطن. وعليه، تمسي مسألة صياغة الرموز وتجسيدها المادي أمام الأعين أو لتسمعها الآذان، حماية لوجود غير ثابت أو جامد، هو صون مخيال جماعي وهوية ورفد للذاكرة تتحرك على خط التاريخ حتى تؤول، في الأخير، إلى الوطن، إلى فلسطين. لربما هذا هو تفسير أمد علاقة أبناء المخيمات بالجدران، فتاريخ استخدام جدران المخيم كوسيلة لم تستبدلها أخرى على مر العقود، والرسم على جدران المخيم قديم قدم النضال الفلسطيني ذاته. لم تنجح أي الوسائط الحديثة من استبدالها. والمميز أن العلاقة بالجدار هذه، وبشكل عفوي هو سمة كل مخيم على طول الجغرافيا من مخيمات غزة إلى لبنان، فيسعنا أن نتخيل أنه وقبل الفايسبوك والإنترنت، وحتى اليوم كانت ولا تزال المخيمات الفلسطينية وأهاليها يتواصلون بشكل عابر للحدود على صفحات الجدران في فضاء موحّد. دأب العدو على إبعاد جزر المخيمات المنتشرة على طول الخريطة، والتي تؤرقه وتحيط به، بل مزروعة في قلبه، ولأنه يعرف كيف أن هذه الرسوم على الجدار هذه في حد ذاتها جبهة، قام بمحاربتها، وليس فقط بطمسها حيث أمكنه، بل حتى حلفائه الغربيين عملوا على تمويل رسومات في مخيمات لبنان تطمس صور الشهداء والكفاح لتستبدلها بألوان ومزهريات. الغاية هنا، إنتاج قطيعة بين المخيم وخطه التاريخي ومسيرته النضالية وتفاعله مع المقاومة في فلسطين، وتحويله لوجود ثابت، فسيمولك الأوربيون لتلون جدرانه بألوان برّاقة، كرسالة بأن عليك الاستسلام للواقع، أن هذه هي محطتك النهائية. وهو ما يتكرر مع ولع اليسار الغربي بجدار الفصل في داخل فلسطين، وحج الرسامين الغربيين لممارسة الترف، لتوهين وتسليع الكفاح الفلسطيني وإكمال مشروع دفنه وإخصائه.
من هنا تأتي أهمية التعامل مع جدران المخيمات كجبهة، وهي بالأهمية بمكان اليوم أكثر مما مضى، حيث إن صون شخصية وأنفة المخيم مهمة في المساهمة في انتفاض الضفة والقدس ومخيماتها المحاصرة والمستهدفة من جنين إلى شعفاط. وعليه، فإن مقارعة أموال الأوروبيين ومساهمتهم ودعمهم المديد لمشروع الإبادة الصهيوني، عبر إعادة نسج علاقة عابرة للحدود بين المخيمات، في تفاعل وانخراط حقيقي في النضال الملحمي الذي يخوضه الشعب الفلسطيني هي جبهة أساسية.
ومن ضمن هذه الجبهة يمثل رسم شخصية كـ"أبو رعد" والد الشهيدين الفدائيين رعد وعبد الرحمن (أنجز العمل مجموعة من الفلسطينيين واللبنانيين تحت اسم "مجموعة خط") على جدران أثراً مضاعفاً. فنضال الضفة اليوم ولّاد برموزه ومجموعاته المنطلقة بشكل سُفلي متحرر من الفصائلية وبرموز عضوية الانتماء في المجتمع الفلسطيني بالضفة ونسيجه واعتباراته الخاصة. وهو ما يجسده أبو رعد اليوم كرمز يحشر ذلك، وهو ما يؤرق العدو الذي ألف سياسات معلبة لقمع أي بوادر نضال في الضفة عبر إغراقها بسيل من التناقضات الداخلية. فرمزية القادة في أي تحرك اجتماعي في غاية الأهمية، وطالما دأب العدو على اغتيال أي شخصية فلسطينية ذات بوادر قيادية، فبالمنظور الصهيوني ممنوع أن يكون للجمهور الفلسطيني قادة أو رموز.
بشكل عفوي ويقيني كيّف أبو رعد تلاوة الآيات القرآنية المحرضة على القتال بشكل يشحذ همة المقاومين والجمهور، ومن دون تصنّع حيث من الواضح وقعها عليه وهو الذي ضحى بفلذات كبده. وهو ما كررته جدارية مخيم برج البراجنة، وبالعبرية في رسالة مباشرة من جبهة جدران المخيم إلى عصابات الصهاينة "إنا منتقمون".