منذ انقلاب رئيس «مجلس السيادة» السوداني، عبد الفتاح البرهان، في تشرين الأول 2021، سُجّلت عودة تدريجية للإسلاميين إلى المشهد السياسي، تُتوَّج اليوم بتطمينات بضمان دورهم في أيّ استحقاقات مقبلة، بموجب اتّفاق سياسي عتيد. وعلى رغم إعلان البرهان، في أيلول الماضي، استبعاد عناصر «حزب المؤتمر الوطني» المنحلّ من السلطة، فإن ذلك لا يعني الكثير على صعيد حصّة الإسلاميين الذين يتجاوزون التنظيم الحزبي، ليشكّلوا كتلة ولاءات سياسية غير محدودة نسبياً، وعلى أسس قبَلية وصوفية تتيح بدورها قدرة فائقة على «إعادة تدوير» هؤلاء العناصر المستبعَدين. ومثّلت عودة البرهان، في العاشر من الجاري، إلى الحديث عن عدم دعم الجيش للإسلاميين، قبل يوم واحد من اجتماعه بالآلية الثُّلاثية، إعلاناً مبطناً عن فكّ الارتباط بين الجيش والتيّار الإسلامي. وإذ لا يبدو هذا مستغرَباً في ظلّ «الدبلوماسية الناعمة» التي ينتهجها البرهان منذ مدّة، فهو يظلّ في كلّ الأحوال إجراءً تكتيكياً، فضلاً عن «لاواقعيّته» بالنظر إلى طبيعة دور الإسلاميين في السياسة، وحجم كتلتهم الانتخابية.
البرهان والإسلاميون
مع فشل مساعيه في تكوين حزب مدني يكون بمثابة حاضنة لطموحاته السياسية، لم يجد البرهان بدّاً من التعويل على التّيار الإسلامي كخيار عملي وغير مكلف. ومن هنا، يُفسَّر إقدامه على الإفراج عن عدد من أبرز مسؤولي نظام عمر البشير، وسماحه لعناصر «حزب المؤتمر الوطني» وبقيّة الإسلاميين باستعادة حضورهم بشكل غير مسبوق. وفي السياق نفسه أيضاً، تندرج مماطلته المستمرّة في تسليم الرئيس المعزول إلى «المحكمة الجنائية الدولية»، في ما قد يكون ترجمةً للحرص على «إبقاء الأبواب مفتوحة» أمام الإسلاميين. أيضاً، لا يشذّ عن السياق المذكور صدور أحكام قضائية لصالح موالين للبشير، في أيلول الماضي، من قِبَل «قضاة متعاطفين مع الإسلاميين». كذلك، راجت أنباء عن انقسام بين البرهان ونائبه في «مجلس السيادة» محمد حمدان دقلو «حميدتي»، على خلفيّة سعْي الأوّل لتمكين الإسلاميين. وعلى رغم نفْي البرهان صحّة تلك الأنباء، إلّا أن دحضه إيّاها جاء بعبارات غامضة من قبيل «إنّنا ندعم الشعب السوداني»، وهو لا يكفي وحده لإنكار ترحيب الرجل بعودة الإسلاميين إلى الحياة السياسية.
تستمرّ القوى الإسلامية في التقدُّم ببطء في المجال السياسي


«استدامة» المرحلة الانتقالية وعودة الإسلاميين
حاز البرهان، في الثامن من الجاري، دفْعة سياسية من حلفائه المنصوين في إطار ما يُعرَف بـ«قوى التوافق الوطني» (مجموعات من المتمرّدين السابقين المُوقّعين على اتفاق جوبا للسلام والمنشقّين عن تحالف "قوى الحرية والتغيير"، و"نداء أهل السودان" التي أسّسها الزعيم الصوفي، الطيب الجد، في تموز الفائت)، بإعلان هؤلاء وثيقة سياسية تُعدّ بمثابة تعديل على «الإعلان الدستوري» لعام 2019. الوثيقة التي تنصّ على تمديد الفترة الانتقالية لـ24 شهراً، تدعو إلى تكوين ثلاث جهات يُفترض بها أن تعمل معاً خلال هذه المرحلة، وهي سلطة سيادية، ووزارة انتقالية، ومجلس تشريعي (من دون تحديد كيفية تشكيله)، فضلاً عن تكوين «مجلس أعلى للقوّات المسلّحة» يشمل القادة العسكريين الحاليين في «مجلس السيادة». كما تدعو الوثيقة، التي رفض أصحابها اقتراح اللجنة التسييرية لـ«نقابة المحامين السودانيين» وضْع «دستور انتقالي جديد» لكوْنه «سيخلق تعقيدات لا تمكن تسويتها»، أبنية السلطة الانتقالية الثلاثة إلى التوافق على مهام «رئيس سيادي»، بما يعني، إلى جانب ترحيل نهاية الفترة الانتقالية، العودة إلى مرحلة ما بعد سقوط البشير مباشرة، لناحية عدم شمولية التسوية، واستبعاد اللجوء إلى صندوق الانتخابات لإرساء «مؤسّسات حُكم مستدامة». وعلى خلفية ذلك، جاء رفض «قوى الإجماع الوطني»، لتلك التحرّكات، وأيضاً لخطاب البرهان بخصوص «عدم دعم الإسلاميين» (الذي ألقاه في ولاية النيل الأزرق، أحد معاقل مناهضة نظام البشير)، وذلك بعد ساعات من اجتماعها مع «مجلس السيادة» و«الآلية الثلاثية»، وتجاهُلها تصريحات قائد الجيش حول «اختراق سيتحقّق في الأيام المقبلة»، يبدو أنه يجري العمل على هندسته، بشكل رئيس، مع جزء من «ائتلاف الحرية والتغيير»، بالاستناد إلى مسوّدة الدستور المقترَحة من قِبَل «لجنة المحامين». واعتبرت تلك القوى، التي تصرّ على إقصاء التيار الإسلامي، أن الهدف من جهود التسوية الحالية، هو «إنقاذ قادة الانقلاب من سقوط مدوّ»، معتبرةً أن مشروع الاتفاق المطروح يعتمد على مكوّن مدني «لا يناهض أصلاً سلطة الانقلاب»، في إشارة إلى «قوى التوافق الوطني».

خلاصة
تستمرّ القوى الإسلامية في التقدُّم ببطء في المجال السياسي، بالتنسيق مع القادة العسكريين، على رغم ما يتردّد بين حين وآخر عن عدم تأييد هؤلاء القادة لعودة الإسلاميين. مع ذلك، لا يُتوقّع تسخين هذا الملفّ إلّا مع قرب الاستحقاقات الانتخابية، فيما بات ملحوظاً ما تستهلكه هذه المسألة من نقاش، على حساب القضايا الأكثر إلحاحاً وشمولاً، وفي مقدّمتها وضع نهاية للمرحلة الانتقالية التي تجاوزت عامها الرابع. وإذ يجري غضّ الطرف عن السيناريو الأنسب لتلك النهاية، والمتمثّل في إجراء انتخابات وطنية عامّة غير إقصائية، يُسجَّل غياب كامل لأجندة سياسية واقتصادية وتنموية تقيل السودان من عثرته الحالية، بأقلّ الخسائر الممكنة.