يأخذ البعض على حركة «الجهاد الإسلامي» كونها حركة مبدئية جذرية، لا تمتلك أيّ برنامج سياسي واضح المعالم. والحقيقة، ليست مغايرة لذلك كثيراً، إذ إن الأمين العام السابق للحركة، رمضان عبد الله شلح، كان قد أجاب في أحد اللقاءات الصحافية عن طبيعة البرنامج السياسي لحركته بالقول: «إذا كان البرنامج السياسي يعني، أن نعترف بإسرائيل، أو بقرارات الرباعية الدولية، التي تُصادر حقنا في 80% من أراضي فلسطين التاريخية، فإنّني أعترف أمامك بأن الجهاد لا تمتلك برنامجاً سياسياً». هكذا، ومن دون أيّ مواربة، تَظهر الحركة التي تأسّست في خضمّ نضوج المشاريع السياسية لـ«منظّمة التحرير الفلسطينية» منتصف الثمانينيات، كـ«قاطعة طريق، أو حركة مارقة»، تغسل يديها من كلّ الاتفاقيات التي تتنافى مع نظرتها «الجذرية» إلى الصراع.
(أ ف ب)

مؤسِّس «الجهاد» نفسه، فتحي الشقاقي، كان قد نأى بحركته منذ تأسيسها عن «وهم البرامج السياسية». ففي فهْم «عز الدين الفارس»، الثورة تتنافى مع الإقرار بالواقع، هي تتمرّد على الواقع أساساً، وتقفز عنه إلى حيّز المأمول، وإنْ كان ذلك المأمول المتمثّل في تحرير فلسطين كاملة من النهر إلى البحر، بعيداً. يقول بطل كتاب «رحلة الدم الذي هزم السيف»، في توصيف البرنامج السياسي لـ«منظّمة التحرير»، والذي كانت «أوسلو» أولى ثمراته المُرّة: «الواقعية السياسية نفق حلزوني مظلم، يَدخل المقاتل من أوّله، ولا يَخرج منه إلّا راكعاً تحت أقدام العدو»، مبيّناً بذلك كيف تَحوّل أصحاب الطلقة الأولى في «فتح»، من مقاومين يطالبون بتحرير فلسطين التاريخية كاملة، إلى جنود في سلطة، قال عنها رئيسها قبل سنوات، إنه «يعيش تحت البسطار الإسرائيلي». في أدبيّات «الجهاد»، أولى مراحل التسليم المطلق لإرادة الاحتلال، ثمّ العمل وكيلاً أمنياً لديه، تبدأ بقبولك الاعتراف بالوقائع التي فرضها على الأرض، ثمّ تصالُحك مع نفسك على شطب جزء من حقّك، والتفاوض على الجزء المتبقّي. لذا، فإن المهمّ لأي سلوك مقاوم، أن يغمض عينيه عن الوقائع التي فرضها العدو، لأن لتلك، وما يحيطها من الاختلال المنطقي لموازين القوى، مفاعيل نفسية، ستقود إلى خلخلة الإيمان بجدوى المقاومة، وبنتائجها المرجوّة، كما ترى الحركة.
الحالة الفلسطينية مغايرة لكلّ الاحتلالات التي عرفتْها الـ100 عام الأخيرة على الأقلّ


ويقود الحديث عن افتقار «الجهاد» إلى البرنامج السياسي، إلى أسئلة معكوسة عن النتائج التي حقّقها أصحاب البرامج السياسية في المشهد الفلسطيني. ذلك أن العُقدة هنا، ليست في ما يمتلكه الفلسطيني من برنامج سياسي، بقدْر قناعة العدو بالسقف الذي يحدّده الأوّل لتنازله، وإسرائيل تريد دائماً المزيد من التنازل. فالحالة الفلسطينية مغايرة لكلّ الاحتلالات التي عرفتْها الـ100 عام الأخيرة على الأقلّ؛ إذ لا يدور الحديث هنا عن الأهداف التقليدية لأيّ استعمار، والمتمثّلة في السيطرة على ثروات البلدان المُستعمَرة، وخطوط النقل والمواصلات، واستغلال شعوبها، بل إن إسرائيل كيان إحلالي، يطمح إلى شطب الوجود الفلسطيني برمّته، وبسط سيطرته على كلّ شبر من «أرض الميعاد». ولذا، فإن أيّ سقف تنازل يمكن أن يقدّمه أيّ برنامج سياسي، لن يلقى أي قبول. وفيما ترفض إسرائيل، مثلاً، إعطاء السلطة في رام الله، امتياز الجلوس الشكلي على طاولة المفاوضات، لترميم صورتها أمام الشارع الذي صار يرى فيها وكيلاً أمنياً للاحتلال، لم تكلّف نفسها أصلاً، الردّ على وثيقة «حماس» السياسية التي أصدرتها في عام 2017.
الشقاقي، هنا، كان قد وضع نقطة في بداية السطر: لا برنامج سياسياً لـ«الجهاد»، ولا ينبغي للمقاوم أن يقبل بأيّ واقع يفرزه أيّ اتفاق مع الاحتلال. لذا، ظلّت الحركة طوال 35 عاماً منذ انطلاقتها، خارج سباق الحُكم والانتخابات؛ ففي الأخيرة، كما يرى الشهيد، مقتل كلّ الثورات الحالمة.