باريس | عندما صرخت حناجر التونسيين بـ«إرحل»، معلنين انطلاق ثورتهم ضد النظام، دوى صدى هذه الصرخة أملاً في فلسطين. وعندما انتقلت الشرارة التونسية إلى مصر بكل ما يمثله هذا البلد تاريخياً وسياسياً وديموغرافياً للعرب وفكرة العروبة، توسع الأمل وتحوّل إلى فرحة، فالفلسطينيون يدركون أن العمق العربي هو الجدار الأخير لقضيتهم اليوم.
وبعد أكثر من ثلاث سنوات على «الثورات العربية»، غزة تعيش تحت قصف الاحتلال الإسرائيلي وحيدة، تواجهه بلحمها ودمها وأطفالها، فيما خمد ضجيج الثورات من حولها، نهائياً، وحلّ مكانه صمت القبور. فلا الشعب أسقط النظام، ولا هو قادر الآن على مساندة فلسطين.
أسبوع مرّ حتى الآن زار فيه الموت معظم مدن وأحياء وشوارع وبيوت القطاع، حاصداً حتى كتابة هذه السطور، أكثر من 80 شهيداً وحوالى 500 جريح، جلّهم من الأطفال والنساء. فكيف كان صدى هذا الموت في بلاد «الربيع العربي» تحديداً؟
مصر من خلال ديبلوماسييها، أعلنت أن هناك مشاورات تجري لتهدئة الأمور ومنع التصعيد، مشيرة على نحو مبطن إلى أنها لن تكون «وسيطاً بين الطرفين»، كما جرت العادة. وحين جرى تصعيد الأمور وبدأ الاحتلال يصب ناره على رؤوس الغزاويين، خرج علينا المتحدث باسم وزارة خارجيتها بدر عبد العاطي مطالباً الطرفين، الفلسطيني والإسرائيلي، بـ«وقف العنف المتبادل».
حكومة «ما بعد الثورة» في أكبر بلد عربي، تضع الاحتلال ومن يخضع له في الخانة نفسها، لا فرق عندها بين الضحية والجلّاد. هل هناك مشهد سريالي ومثير للغثيان أكثر من ذلك؟
أما عبد الفتاح السيسي، الذي خطف قلوب المصريين فأوصلوه إلى سدّة الحكم بغالبية ساحقة، فقد صمت دهراً ونطق كفراً. ثلاثة أيام مرّت على الاعتداء على قطاع غزة، من دون أن يكون للزعيم الذي شُبّه بجمال الناصر كلمة حول ما يحدث. وأخيراً خرج علينا ليقول إنه اتفق مع الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، على منع تدهور الأوضاع بين الجانبين، من دون حتى أن يشجب أو يستنكر، بل زاد في سخائه بعدما تكدس عدد الجرحى، ففتح معبر رفح أمامهم للعلاج في المستشفيات المصرية، بعدما كان قد حافظ على إغلاقه في وجه أحلامهم، حين كانوا أصحاء أحياء. لو بحثنا في أرشيف الصحف المصرية عن تصريحات حسني مبارك في مواقف مشابهة، لوجدناه أكثر جرأة.
يبدو أنه محكوم على قطاع غزة والقضية الفلسطينية، أن تعرّي حكومات ما بعد الثورة بدمها وبأعمار بناتها وأولادها. ففي عام 2012 وأثناء حكم «الإخوان المسلمين» لمصر، تعرضت غزة لاعتداء مشابه، فما كان ممن كانوا يطالبون دائماً بفتح الحدود، ويعيبون على النظام السابق، أنه يدنّس أرض مصر بوجود سفير إسرائيلي عليها، إلا أن تحوّلوا إلى وسيط «نزيه» بين «حماس» والاحتلال، من دون أن ينسوا حماية السفارة الإسرائيلية باسم الواقعية والعقلانية.
أما تونس، بلد الربيع الأول والمحكومة من «إسلاميين» يغارون على الأمة وقضيتها الأولى، فقد عادوا هم أيضا إلى أرشيف زين العابدين بن علي واستخرجوا منه مناشدة إلى مجلس الأمن بالتدخل لوقف التدهور، هذا هو أقصى ما يستطيعون فعله.
المثير للغضب هنا، أننا كنا بالأمس نعيب على الأنظمة السابقة اكتفاءها بالشجب والاستنكار أمام الدم الفلسطيني الغزير، وحين خرج الغضب العربي إلى الشوارع مطالباً برحيلها شخصت عيوننا بكل سذاجة إلى المستقبل وارتفع سقف توقعاتنا تلقائيا، لكن سريعاً تحوّل الحلم إلى كابوس، وها نحن اليوم نطالب ورثة الثورة بأن يرتقوا في مواقفهم إلى مستوى الأنظمة السابقة. هل أحلامنا في العالم العربي هشّة وسريعة الانكسار إلى هذه الدرجة؟
لو حاولنا الخروج من متن المشهد العربي ومراقبته بمجمله من الخارج، فسنصاب بالرعب وسنكتشف سريعاً أن فلسطين في طريقها إلى فقدان السند العربي الشعبي. ليس في الأمر مبالغة ولا تسرّع في إصدار الأحكام. فها هي سوريا بلد الطوق ومقرّ قيادات المقاومة والجسر الموصل للصواريخ التي تدافع بها غزة اليوم عن نفسها، تصارع الموت ليل نهار، والعراق البلد المركزي الثاني بعد مصر، أصبحنا نتحدث عن احتمالية تقسيمه كأنها مسألة بديهية لا تثير فينا حتى الخجل، و«داعش» بات اسما نردده كأنه وريث شرعي لحمورابي وشريعته، من دون أن نسأل أنفسنا من أين وكيف ولماذا ظهر هذا الاسم بيننا؟ واليمن سرقوا منه ثورته وأصبح اليوم أقصى ما يتمناه هو النجاة من آفة التقسيم أيضا. أما السودان، فقد قُسّم وأصبح جزء منه صديقا للعدو. هل يكفينا هذا الرعب؟ أم تريدون أن نشارك تركي الفيصل حلمه ونركب معه الطائرة لزيارة القدس ومتحف المحرقة اليهودية؟
قبل «الربيع العربي»، كنا نرى أمامنا ثلاثة أعداء أساسيين هم: الاحتلال الإسرائيلي والإمبريالية حاضنته التقليدية والأنظمة العربية الديكتاتورية، لكن اليوم نحن أعداء بعضنا بعضا وأعداء أنفسنا. فالمسلم عدو المسيحي، والسني عدو الشيعي، والعربي عدو الكردي. جنون أصابنا فخرجت من داخلنا كل هوياتنا الصغيرة الضيقة بأبشع تعبيراتها، خروج أعادنا ألف عام وأكثر إلى الوراء كأن غبار معركة «الجمل» أو «صفين» لم يهدأ بعد، فتغيرت أولوياتنا وتبدلت أحلامنا حتى لم يعد لنا الوجوه نفسها التي كنا نعرف بعضنا بعضا من خلالها ولا الأسماء ذاتها.
في ظل هذا المشهد السريالي، هل من حق فلسطين وأهل غزة أن يتوقعوا غضباً من عربي، إما غارق في جهله فيركض نحو قرون سابقة كما تركض الشاة إلى المسلخ؟ وإما أُحبط بعدما استيقظ من حلم الثورة على كابوس التقسيم؟
لن أدعوكم إلى اليأس، وعلينا ألا نيأس أصلاً. فغالباً، الأمم لا تعرف طريقها الصحيح إلا حين تلامس الموت بكلتا يديها، ولا تفكر في زراعة وردة في حاضرها، إلا بعد أن تستخرج من تاريخها أقبح ما فيه.
وهذا كلام ليس لنحضنه وننام، بل لندرك واقعنا بكل علاته وقبحه، وحينها علينا أن ندرك أن المسؤولية تجاه بلادنا وتجاه فلسطين فردية، قبل أن تكون جماعية. وربما أول من عليه أن يتحمل هذه المسؤوليات، هو الشباب، الذي استطاع فعلاً أن يحرك الفؤاد العربي من محيطه إلى خليجه، باتجاه واحد. على هذا الشباب أن يسترد ثورته التي سرقت منه، وأن يعيدها إلى الطريق الأول الذي حلم به، ولنا في تاريخ ثورات الأمم عِبر.