الحسكة | لم تكن تصريحات القائد العام لـ«قسد»، مظلوم عبدي، ولاحقاً بيان «مجلسها العسكري»، حول الاستعداد للتنسيق مع الجيش السوري بشأن الغزوة التركية المحتملة في الشمال، الأولى من نوعها، بل باتت اعتيادية مع كلِّ تهديد تركي من هذا النوع. وتكاد قيادة «قسد» تستنسخ الخطاب ذاته في كلّ مرّة، بهدف رمي الكرة في ملعب الحكومة السورية، وسط تساؤلات غير منقطعة عن مدى استعدادها هي لتقديم تنازلات حقيقية في الميدان، ونزع الذرائع التركية بشأن استمرار تواجد «الإدارة الذاتية» وإدارتها الفعلية للمناطق الحدودية، حتى بعد انتشار الجيش السوري هناك في العام 2019. وذهب رئيس مجلس «مسد»، رياض درار، أخيراً، إلى إبداء استعداد «قسد» لأن تكون جزءاً من الجيش السوري مستقبلاً، من دون تحديد كيفية تحقيق ذلك. ومنذ أوّل عملية تركيّة ضدَّ مناطق سيطرة الأكراد في العام 2018 (غصن الزيتون)، والتي أدّت إلى احتلال عفرين وأريافها، ألقت «قسد» بالمسؤولية على الجيش السوري، وطالبته بالقتال عنها. وحينها، خاض ممثّلون عن الحكومة مفاوضات ماراثونية مع «قسد»، رافقها دخول دفعة من القوات الرديفة للجيش إلى عفرين، واستشهاد نحو 80 منهم في معارك وغارات جوية تركية، إلّا أن تمسّك «الإدارة الذاتية» بعدم تسليم المدينة إدارياً وعسكرياً للدولة السورية، أدّى إلى سقوطها بيد الأتراك والفصائل المسلّحة الموالية لهم. وتَكرّر المشهد أيضاً في مدينتَي تل أبيض ورأس العين، واللتين هاجمهما الأتراك بعد وقت قصير من انسحاب الأميركيين منهما. صحيح أن الروس تمكّنوا حينها من وقف التمدّد التركي باتجاه مناطق إضافية، من خلال رعاية اتفاق بين «قسد» والجيش السوري، قضى بانتشار الأخير على كامل الشريط الحدودي، وانسحاب «قسد» إلى مسافة 30 كلم، إلا أن محاولات «الإدارة الذاتية» المستمرّة إفراغ الاتفاق من مضمونه، والاحتفاظ بالسلطة الإدارية والعسكرية في مدن وبلدات الشريط الحدودي، أعطى ذرائع جديدة لأنقرة لإطلاق تهديدات بشنّ هجوم جديد. كما اتُّهمت «قسد» بعدها بتقييد حركة الجيش السوري، ومنع عناصره من التجوّل في المدن والبلدات التي انتشر فيها لحمايتها من الهجمات التركية، وحصر حركته بالنقاط التي يتواجد فيها.
على الرغم من دعوة «قسد» الجيش السوري إلى التنسيق، إلا أن كلامها لا يزال إعلامياً


ومع تجدّد التهديدات التركية أخيراً، أصدرت القيادة العامّة لـ«قسد» بياناً حذرت فيه من أن أيّ هجوم تركي سيعيد الأمور إلى المربع الأوّل، ويهدّد وحدة البلاد، ويؤثّر في الحرب ضدّ «داعش»، قبل أن تشير في أسطر البيان الأخيرة إلى الاستعداد للتنسيق مع القوات الحكومية لصدّ الهجوم المحتمل. والظاهر أن البيان كان، في وجه من وجوهه، موجّهاً إلى الأميركيين بشكل رئيس، للضغط عليهم بهدف منع أنقرة من تنفيذ تهديداتها، وذلك من خلال التلويح بورقتَي مخيمات «داعش» في الحسكة، والاضطرار للتنسيق مع دمشق، وهو أمر لا تريده واشنطن مطلقاً. كذلك، بدا الموقف، وفق قراءة البعض، محاولة لإحراج السوريين والروس معاً، وتجهيز الاتهامات لهم بالتخلّي عن مهمة الدفاع عن المنطقة.
وفي هذا الإطار، تقول مصادر مطّلعة على مسار المفاوضات الحكومية مع «قسد»، في تصريح إلى «الأخبار»، إنه «على الرغم من دعوة قسد الجيش السوري إلى التنسيق لصدّ العدوان التركي، إلا أن كلامها لا يزال إعلامياً، بخاصّة أن التنسيق مع دمشق لا يحتاج إلى دعوات على وسائل الإعلام، في ظلّ سياسة الباب المفتوح التي تتبعها الأخيرة مع كلّ الوفود التي زارت العاصمة سابقاً». واعتبرت المصادر أن «تمسّك قسد بشروط تعتبرها دمشق خطاً أحمر يمسّ بوحدة البلاد، وعدم إبداء الاستعداد لتقديم أيّ تنازلات، هو ما يُفشل الحوار، ويجعله من دون جدوى». وأضافت أن «عدم فكّ قسد ارتباطها بالأميركيين، على رغم تخلّيهم عنها في أكثر من مناسبة، هو من الأسباب الرئيسة أيضاً لعدم نجاح الحوار». وأشارت إلى أن «دمشق لا تحتاج لدعوة للدفاع عن أراضيها، وترى في الوجود التركي احتلالاً يجب مقاومته، لكن عدم وجود سلطة إدارية وعسكرية كاملة على المناطق الحدودية، يضع عراقيل أمامها، ويعطي مبرّرات للاحتلال التركي، بشنّ مزيد من الهجمات».
وبناءً على ما سبق، يمكن القول إن «قسد»، تريد «التفيّؤ» في ظلّ دمشق، واستثمار وجود الروس، لكبح نوايا أنقرة الهجومية، وفي الوقت نفسه الاحتفاظ بأفضل العلاقات بالأميركيين، الذين تَعتبرهم القيادة الكردية الوحيدين القادرين على فرض شكل إداري وعسكري لمناطق سيطرتها، يمكن الاعتراف به في التسوية النهائية للأزمة السورية، مع تذكير الولايات المتحدة بأن الفراغ الذي تركته في المناطق التي انسحبت منها، هو ما فرض على الأكراد التقرّب من موسكو ودمشق. وعليه، فإن اللّيونة التي يُبديها قادة «قسد» مردّها فهمهم رسائل واشنطن الواضحة بعدم قدرة الأميركيين على منع أيّ هجوم تركي على مناطق لا يتواجدون فيها. وهو ما يعني أن أيّ عودة أميركية مفاجئة إلى ريف حلب والرقة، ستُقابل بنسف «قسد» تصريحاتها بخصوص التنسيق مع الجيش، والعودة إلى الاحتماء بالأميركيين مجدّداً، فيما تريد دمشق من قادة «الذاتية» الاستفادة من التجربة الحالية، وإدراك أن الوجود الأميركي في سوريا ليس أبدياً، وأن فكّ ارتباط الأكراد بالأميركيين سيثمر حلولاً تنعكس إيجاباً على الجميع.