من «الرقة» إلى «الموصل»، تعيد «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، رسم الخريطة الجيوسياسية المشرقية، وتعصف بالحدود بين الدولتين الوطنيتين اللتين تشكلتا عقب الحرب العالمية الأولى، سوريا التي يبعدها التمرد الإرهابي عن السيطرة على الجزيرة الفراتية والجزء السوري من بادية الشام، والعراق المفكك الذي أظهرت ميليشيات «داعش»، أول من أمس، تفوّقها الكاسح على جيش لا يزال رخواً ومخترقاً، وسط انقسامين: مذهبي وإتني، فتحا الباب أمام عصبية قبائلية ـ مذهبية تكفيرية متطرفة، لقتال يبدو ناجحاً حتى الآن، ليس فقط لإنهاء سيطرة بغداد على ولاية الموصل والجزء العراقي من بادية الشام، بل ولإلغاء مجمل المنظومة المحلية (السنية) وتهديد استقلال كردستان العراق جدياً، لأول مرة منذ 1991.
من الصعب أن نفهم المشهد الذي يكوّنه مشروع «الدولة» الذي يتحقق، بصورة سريعة ومدهشة، على مرأى القوى الإقليمية والدولية، من دون أن نزيح من الأذهان، الحدود السياسية القائمة في المشرق العربي، لكي نتعرّف إلى الجغرافيا التاريخية للأقاليم المشرقية؛ على الخريطة، تجاور ولاية الموصل «العراقية»، الجزيرة الفراتية «السورية» في ما يشبه كتلة جغرافية متدامجة، تحاذيها، وتتداخل معها، بادية الشام الكبرى التي تضم جنوب شرق سوريا وغرب العراق وشرق الأردن وشمال السعودية، وتشكل مثلّثاً رأسُه عند حلب شمالاً وقاعدته عند خليج الكويت في الشرق وخليج العقبة في الغرب. وكل هذه المناطق تشكل معاً إقليماً هو الإقليم الطولي الخامس من سوريا الطبيعية، الذي يلي الشريط الساحلي، فسلسلة المرتفعات الغربية، فسهل البقاع الممتد إلى الأغوار ووادي عربة، فسلسلة المرتفعات الشرقية التي تنحدر عنها البادية المترامية الأطراف. وتسيطر «داعش» اليوم على معظم الأجزاء السورية والعراقية من هذا الإقليم.


تمتلك «داعش»
اليوم ذات المصادر التي أسست للحركة الوهابية ـ السعودية التي أسست مملكة آل سعود
لا يمكن، في الواقع الجغرافي الاجتماعي التاريخي، الفصل بين ما هو شامي وعراقي؛ ولطالما دارت، وتدور مناقشات يحفزها التداخل، وتظهر فيها، على الدوام ومنذ ما هو معروف من الأدب الجغرافي القديم وحتى أنطون سعادة، معايير متعددة للحدود الفعلية بين القطرين. وفي نبذة في موقع صديق لـ«داعش» أن «الجزء الشرقي من سوريا يعتبر من الجزيرة وليس من الشام. وقد كانت ولاية الجزيرة مستقلة عن ولاية الشام في بعض الأحيان. وعند الفتح الإسلامي كانت مستقلة عن الشام وعن العراق. وكان العراق، آنذاك، يشمل الكوفة والبصرة». وفي التاريخ السياسي للإقليم المتداخل، نلاحظ مثلاً أن تقهقر الخلافة العباسية بسبب التغلّب التركي في بغداد، حفز الحمدانيين، مستندين إلى العصبية العربية، إلى تأسيس إمارة مقاتلة، حكمت حلب والموصل وامتد نفوذها إلى بلدان وقرى الفرات والشام خلال الفترة من 890م إلى 1004م. وينتسب الحمدانيون إلى قبيلة تغلب بن وائل من القبائل العربية التي كانت مساكنها أرض الجزيرة شمال شرق سوريا.
يقول موقع قبائلي على النت في مقال متبجح إن «عنزة» هي «سيدة بادية الشام»، وقد كان الأمر كذلك في العهد العثماني، بعدما زالت إمارة آل فضل التي اعترف بها المماليك على عرب الشام. ولطالما استدعى العثمانيون قبيلة «عنزة» لمقاتلة قبيلة «شمر» المتحدية، أو حتى افتعال نزاعات مسلحة بين القبيلتين الكبيرتين لضمان سيطرتها السياسية.
لكن حاضنة «داعش» الأساسية تقع في محافظة الأنبار الشاسعة من بادية الشام، وهي منازل أربع متحدات قبلية هي «الدليم» و«زبع» و«عنزة» و«العكيدات»؛ فـ«عنزة» تقع، هنا، في الترتيب الثالث، بينما تعلو مرتبتها في بادية محافظة الموصل، المحاذية للأنبار.
«أسوأ جار لأي مدينة ـ كما يقول الباحث العراقي أحمد هاشم الحبوبي ـ هو الصحراء؛ فهي منبع الوحوش البشرية الكاسرة ذوي الطباع الحادة والفكر المتطرف». ويلاحظ الحبوبي، منذ خريف 2013، أن الموصل شكلت مورداً مالياً أساسياً لـ«داعش» من خلال الخوّات التي فرضتها على المدينة. وهو يشير، بصراحة، إلى تفاهم غير مكتوب بين قوى الجيش والأمن في الموصل وبين «داعش» أساسها الخوف والفساد والأهم الشعور بأن العدو المشترك هو نظام الحكم في بغداد. ولعل الانهيار الأمني السريع في الموصل أمام ميليشيات «داعش»، الاثنين الماضي، ينم عن تواطؤ أكثر مما يعبر عن تخاذل.
لم يكن الحال كذلك دائماً بين الموصل والبادية؛ ففي القرن التاسع عشر، ازدهرت الموصل، كما تقول المؤرخة سارة شيلدز، كمركز تجاري رئيسي متصل بالسوق العالمي، يصدّر للغرب منتجات وخدمات بدوية؛ فلقد «حاز البدو قدرة اقتصادية واضحة، فجهزوا سكان المدينة وما جاورها باللحوم والسلع والمنتجات الحيوانية الضرورية التي تتطلبها الصناعات المحلية، ووجد الصوف طريقه إلى أوروبا»، لكن الأهم أن البدو «كانوا متحكمين في تأمين حركة التجارة في المنطقة». ونشأت، بالتالي، علاقات تعاضدية بين البدو والحضر في ولاية كانت تضم الموصل وسهولها وكردستان العراق، وكانت الكلمة العليا فيها، اقتصادياً وسياسياً، للبداوة، قبل اكتشافات النفط التي غيرت المشهد في القرن العشرين، ووضعت الموصل في حمأة الصراع الفرنسي ـ البريطاني على السيطرة عليها. وهو ما انتهى لمصلحة البريطانيين وضم الموصل إلى المملكة العراقية التي بدأت بعلاقات قوية أقامها الملك فيصل الأول مع القبائل. وهو مسار استنهضه التيار القومي في مواجهة جمهورية قاسم (تمرد الشوّاف الشهير المدعوم من مصر، العام 1959)، ثم اعتمدته الدولة البعثية كمكوّن رئيسي لعلاقات السلطة في العراق، لكنه حوّل القبائل عن الإنتاج إلى التمتع بالريع السياسي. وهي صيغة سقطت بالاحتلال الأميركي للعراق، عام 2003؛ ما شكّل (أي سقوط تلك الصيغة) القاعدة الاجتماعية لجماعات المقاومة ثم «القاعدة» في فرعها المحلي الذي تحوّل إلى «داعش».
تنظر «داعش» ـ التي غيرت الأيديولوجيا الممثلة للقبائل من القومية العربية والبعثية إلى السلفية الجهادية التكفيرية ـ إلى الموصل، وكردستان العراق، باعتبارها جزءاً من دولة الأنبار وصلاح الدين وبادية الشام؛ ولدى اندلاع التمرد والفوضى في سوريا، استنهضت «داعش» المجال الحيوي للسيطرة القبائلية على ما تعتبره منطقة نفوذ «دولتها» البدوية: الجزيرة الفراتية وولاية الموصل العثمانية، بعربها وكردها؛ لاحقاً، ستمتد «الدولة» لتعبئ البادية كلها؛ هكذا ستنتقل، وقد تدهشنا سرعتها في ذلك، إلى العمل في شرق الأردن وشمالي السعودية. وبذلك، تستكمل مداها الحيوي الجغرافي الاجتماعي كاملاً؛ يعني ذلك رسم حدود جديدة للدول القائمة: سوريا تنتهي عند حلب، والعراق ينتهي بالقرب من بغداد، والأردن ينتهي غرب سكة حديد الحجاز ويتقلص في السلسلة الجبلية، بينما تتقلص الحدود السعودية لتخسر أراضيها الشمالية، بدءاً بدومة الجندل. وعلينا أن ننتبه، هنا، إلى أن استكمال مشروع «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، سيضعها في الجوار المصري ويربطها بسيناء.
تمتلك «داعش» اليوم مصادر دخل مستقلة، وتسيطر على مناطق غنية، وعقيدة بدوية ـ تكفيرية وقوة مقاتلة صعبة المراس، فكأنه تكرار للحركة الوهابية ـ السعودية في الجزيرة العربية التي أسست مملكة آل سعود. السؤال الآن عن تحالف العصبيات البدوية التي سيكون على «داعش» استكمالها بالتحالف مع القبائل المحلية أو إغرائها أو إخضاعها.
بالمقابل، وبينما تخوض الدولة السورية معارك طاحنة ضد التمرد الإرهابي في ما قبل المدى الداعشي، تقوم الدولة العراقية المفككة المستندة إلى عصبية شيعية بلا مشروع، باتباع استراتيجية استقطاب قبائلي سني ضد «داعش»، ولكنها تخسر في المنافسة، لكونها لا تقترح مشروعاً وطنياً، وإنما استتباعاً لفروع قبلية على الطريقة الأميركية في إنشاء ما عُرف بـ«الصحوات»؛ ليس تمويل العطالة الشاملة هو ما يمكنه استمالة القبائل نحو «الدولة»؛ ففي العراق البعثي كانت هذه القبائل جزءاً عضوياً من تكوين السلطة؛ فقدت هذا الامتياز، ولم تقترح عليها بغداد سوى الخضوع لدولة شيعية منفصلة، بينما تعدها «داعش» بالاندماج في سلطة دولة تمتد على منطقة عراقية ـ سورية شاسعة، حتى من دون بعثيين ولا دولة حديثة، بل عودة إلى استقلال ذاتي كما في عهد المماليك والعثمانيين. وهو مشهد يتكرر في الأردن، ولكن على نحو أقل حدّة بسبب عدم وجود الانشقاق المذهبي؛ فقد خرجت البادية من عضوية السلطة ودولة الرعاية الاجتماعية إلى التهميش الاقتصادي والسياسي والثقافي؛ وهو ما يفتح الباب، واسعاً، أمام «داعش».