القاهرة | عند الساعة العاشرة والنصف صباح غد الأحد، يبدأ عهد جديد في مصر مع أداء الرئيس عبد الفتاح السيسي اليمين الدستورية ليتقلد منصبه رسمياً. مرحلة جديدة من تاريخ مصر بدأت تتشكل ملامحها منذ إطاحة الرئيس محمد مرسي في 3 تموز الماضي، بحيث سيطرت فيها القبضة الأمنية على المشهد العام.
قبضة لم تطاول جماعة الإخوان المسلمين، بل امتدت إلى النشطاء والشباب ومن يساندهم أو يؤذيهم، في ظل حالة «شعبوية»، «شوفينية» صورت السيسي بوصفه «المخلص» المنتظر لانتشال مصر مما هي فيه. هذا بالتوازي مع حالة دولية تتوزع فيها الأدوار ما بين جناح عربي ـــ خليجي مساند لما جرى وممثل لغطاء اقتصادي تقوده الإمارات والسعودية، ومن خلفهما البحرين والكويت. بينما تقف قطر وتركيا مناهضتين لما جرى، فيما يظل الموقف الغربي والأميركي مسانداً، لكن بتحفظ يجنبه حرج الاعتراف المباشر بما يسمى في عرفه «الانقلاب» حتى لو كان غير معارض له، متوجساً من حالة حقوق الإنسان والوضع الاجتماعي، غير غافل عما يجري في سيناء، مترجماً ذلك إلى تمثيل منخفض المستوى الدبلوماسي في المراسم التي ستجري صباح غد.
في ظل هذه الصورة والمشهد، يبدأ السيسي ضربة البداية لاستكمال ملامح تلك المرحلة، محاصراً بتحديات سياسية واقتصادية واجتماعية ـ دينية ودولية، سيكون شكل مصر مرتهناً بالتعاطي والتعامل معها.
على المستوى السياسي، أمام السيسي جملة من التحديات أبرزها هو التعامل مع جماعة الإخوان المسلمين والمساندين لها، ممن يرفضون ما جرى ويقاومونه حتى الآن، وهو ما بدا من ظهور متكرر في محافظات متعددة، بما يعني أنه ليس ثمة تهدئة ستقدم عليها، بل غياب أي أفق للمصالحة، ما يعني استمرار الاحتقان لدى آلاف الأسر ممن لهم ذوو مقتولون أو معتقلون. هذا في الوقت الذي يتصاعد فيه غضب الشباب، حتى من المخالفين للإخوان، على السلطة الحالية، الذي ظهر في العزوف الكبير لهم عن انتخابات الرئاسة ومناهضة الرجل قبل أن يجلس على كرسيه، وهو ما يؤدي إلى تحدي فتح المجال العام أمام الحريات التي رُوج أن الرجل لن يصادرها، وخاصة في ظل قبضة أمنية طاولت الفضاء الإلكتروني أيضاً ولم تقف عند حدود الفضاء الحقيقي.
وعلى الجانب الآخر، إن تحدي صراع شبكات المصالح ورجال الأعمال وسياسيي الحزب الوطني السابقين ومعهم طوائف عديدة من المجتمع، سواء دينية أو اجتماعية، على نصيبها في كعكة الحكم أو المغانم الاقتصادية والضغط على الرجل ليدفع ما يرونه فاتورة مستحقة لهم، سيكون تحدياً كبيراً. فالرجل طوال طريقه للترشح كان الجميع صامتاً منتظراً تتويجه، ومعلناً صبره لمحاربة الدولة «للإرهاب»، لكن الآن بات المجال مفتوحاً أمام الكل في تشكيل النظام الجديد، وهو ما سيتجلى في الانتخابات البرلمانية المقبلة التي جاء قانونها مؤسساً لصراع رجال أعمال وعائلات وعصبيات بسبب طغيان مساحة التنافس على المقاعد الفردية على مقاعد القائمة، وهو أمر بدا أنه لن يكون من السهل السيطرة عليه بحال من الأحوال.
لذا، إن الطلب على استدعاء وزارة الداخلية ببطشها المعروف، يبدو أنه سيرتفع لضبط هذه الصراعات التي ستتفجر، لكن من دون معرفة كيف ستتعامل مع هذه الأطراف التي أتت جميعها من خلفية واحدة، وجميعها لا تعارض السيسي، بل تتناحر على ما بعد السيسي، فضلاً عن زيادة الطلب عليها في مواجهة الشباب والإسلاميين، ما يعني توسع دورها وتضخمه.
كذلك، لا يبدو أنه على الصعيد الاجتماعي ـ الديني سيكون الأمر بأفضل حال من الصعيد السياسي، فغياب الإخوان المسلمين من المشهد بما كانوا يحتلونه من مساحة كبيرة في المجال العام الديني، فتح باب الصراع بين السلفية والصوفية، على وراثة هذا المجال لوراثة وجه مصر الديني «شعبياً»، بينما تحاول الدولة إحكام قبضتها على الدين والتدين وتأميمه. وكان آخر ذلك القانون الذي سنّه الرئيس المؤقت عدلي منصور بمنع ممارسة الخطابة والدعوة في المساجد من غير المرخصين من الأوقاف والحاملين للشهادات الأزهرية، ما يعني صراعاً من نوع مختلف بين قوى إسلامية متجذرة في المجتمع على رأسها السلفية، وبين الدولة والطرق الصوفية من جانب آخر، هذا في الوقت الذي بدأت فيه أصوات مسيحية بالمطالبة بإقرار قانون دور العبادة الموحد، وتعيين المسيحيين في مناصب قيادية بالدولة، وهو إن أخذ شكلاً رسمياً سيشكل حالة من الجدل قد تؤدي إلى احتقان، وخاصة حال وجود ممانعة سلفية أو ممانعة من قطاعات محافظة في المجتمع.
على الصعيد الاقتصادي، فعلى الرغم من إعلان المحور الخليجي استمرار دعمه لمصر، من خلال مؤتمر للمانحين، فإن الموازنة الخاصة بالسنة المالية القادمة، وما فيها من خفض للدعم وزيادة حجم الضرائب، واستمرار التضخم، جعل خبراء اقتصاديين يذهبون إلى أن مصر قد تدخل حالة ركود تضخمي، وما قد ينعكس سلباً على الأوضاع المعيشية، التي إن ضاقت على المواطنين ستوسع من مساحات التذمر الشعبي وتخفض من شعبية الرجل، هذا فضلاً عن أن الرجل لا بد أنه سيسدد فاتورة دعم الخليج في شكل اقتصاد سياسي، قد يغضب رجال الأعمال أو يصطدم بالجهاز البيروقراطي للدولة.
لا يقل البُعد الدولي في المشهد المصري أهمية عن سابقيه من التحديات الداخلية، فالرجل دعا في مشهد غرائبي دولاً عدة للحضور من أجل انتزاع شرعية دولية، تضفي على منصبه قدراً من الاستقرار في المستقبل، وتتيح له هامش تحرك يجنبه «صداع» ضغوط الدول الغربية، وخاصة الاتحاد الأوروبي، أكبر مُقدم منح لمصر في الشؤون المدنية وأميركا صاحبة المعونة العسكرية لمصر. وهو ما يبدو أنه لن يكون سريعاً، وخاصة في ظل انخفاض مستوى التمثيل لهذه الدول غداً، الأمر الذي يوحي أنها لا تريد ترك الحبل على الغارب له، وخاصة في خشية الكثير منها على حالة حقوق الإنسان والحريات التي قد تؤدي إلى انفجار الأوضاع في المدى المتوسط، ما يؤدي إلى اضطرابات لا ترغبها هي، خوفاً على مصالحها، واستقرار أمن الاحتلال الإسرائيلي.




أدوات المشير في المواجهة

ورغم هذه التحديات التي تنذر بعدم استقرار في حكم المشير، فإن السيسي يبدأ حكمه ولديه أدوات للمواجهة، تأتي على رأسها شعبيته التي استمدها من رغبة الناس في الاستقرار، ووقف المؤسسة العسكرية التي كان وزير الدفاع فيها خلفه، بما تحمله من قدرات اقتصادية وأمنية كبيرة تسعى إلى إنجاحه باعتباره ابن المؤسسة، فضلاً عن دعم خليجي يمنع الانهيار الاقتصادي في مصر، وترحيب إسرائيلي عبر عنه رئيس الوزراء بنيامين نيتنياهو، وخاصة في ظل التنسيق بين الجيش المصري والإسرائيلي في مواجهة الجماعات المسلحة والجهادية في سيناء، ما يعني اعتبار الرجل حافظاً لأمن إسرائيل، إضافة إلى دعم الطرق الصوفية والتيارات العلمانية أمام التيارات الإسلامية الأخرى والسلفيين.
يُضاف إلى ذلك، مساندة روسية أمام تراجع الاتحاد الأوروبي. أما على المستوى الداخلي، فإن تحالفاً يتشكل بقيادة اللواء مراد موافي مدير المخابرات العامة السابق، ويضم عمرو موسى ورئيس الحزب المصري الديموقراطي الاجتماعي محمد أبو الغار واللواء أحمد جمال الدين وزير الداخلية السابق ورئيس حزب الوفد السيد البدوي لتشكيل تحالف سياسي يدعم السيسي في البرلمان القادم، وخاصة في ظل دستور يُضعف من موقف رئيس الدولة أمام البرلمان، وهو أمر فتح شهية البعض للحديث عن تشكل ثنائي في مصر يشبه ذلك الموجود في روسيا بين بوتين ومدفيدف، شقّاه في مصر السيسي وموافي. إلى هذا فإن مصر السيسي، يبدو أنها لن تكون مستقرة وستنالها الاضطرابات والقلاقل، حتى وإن بدأت في بداية مرحلته مستقرة أو متفائلة، فحجم الضغوط والتحديات يفتح الباب لصراعات كبيرة بين طوائف كبيرة في المجتمع ترغب في امتيازات لها وجزء من كعكة السلطة، في ظل مقاومة وعزوف شبابي وتحدٍّ إخواني، وترقب دولي، وهو ما قد يؤدي إلى حالة غير مستقرة، لا تفضي إلى حالة ثورية في المدى القريب، لكنها لن تؤدي إلى سكون وانسيابية في حركة الحكم على المدى القصير.