تونس | فكرة أخرى مبهمة ألقى بها الرئيس قيس سعيد، على مسامع التونسيين: استفتاء إلكتروني على تعديل النظام السياسي. تعديلٌ يبدو أنه جرت صياغته في أروقة قصر قرطاج بين سعيد ومستشاريه، ليُقدَّم كوجبة جاهزة للجميع، على أن يخضع لجدول زمني لإدخال الإصلاحات، ما يعني عدم اقتصاره فقط على تنقيح الدستور أو استبداله بنصّ دستوري جديد يقضي بالانتقال من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي، وإنّما سيطاول أيضاً النظام الانتخابي والحكم المحلي والهيئات الدستورية.وتثير هذه العملية تساؤلات في الشكل والمضمون. ففي الشكل، لا يمكن الجزم بإمكانية إجراء الاستفتاء الإلكتروني في دولة أنهكتها بيروقراطية الوثائق والأوراق، ولم تمضِ أشواطاً تذكر في مسار رقمنتها بما يسمح ببعث منصات انتخاب إلكترونية تضمن سيْر العملية بسلامة ونزاهة ومن دون تلاعب، علاوة على الشبهات التي تلاحق هيئة الانتخابات المتّهمة بالتورّط مع أطراف سياسية، وتسريب قاعدة البيانات الانتخابية. أما من ناحية المضمون، فلا تبدو فكرة الاستفتاء على تعديل الدستور مقبولة لدى خبراء القانون، إذ سبق لأكاديميين أن حذّروا من هذه الخطوة التي ستكون، بحسبهم، «استفتاءً على الشخص، لا على ما يطرحه»، وهو ما يقود آليّاً إلى قبول مقترح سعيد بصرف النظر عن وجاهته من عدمها، نظراً إلى الدعم الشعبي الهائل الذي يحظى به. ولن توافق أطراف حزبية ونقابية في البلاد متّفِقة مع الرئيس التونسي حول ضرورة تعديل النظام السياسي، على ذهابه نحو هذه الخطوة منفرداً، من دون استشارتها. وفي هذا السياق تحديداً، يأتي موقف «الاتحاد العام التونسي للشغل»، الذي شدَّد، على لسان الناطق الرسمي باسمه سامي الطاهري، على ضرورة إجراء حوار وطني من دون إقصاء للأحزاب السياسية. ولفت الطاهري، خلال اجتماع لقيادات منظّمة الشغيلة في محافظة صفاقس، إلى أن الاتحاد «لن يلتقي مكونات منظومة ما قبل 25 تموز، ولا رجوع إلى البرلمان المعلَّقة أشغاله باعتباره جزءاً من المعضلة التي عاشتها البلاد». ولا يمكن عزل موقف الاتحاد، عن مسار المفاوضات التي يخوضها مع الحكومة حول زيادة الأجور. وبخلاف جولات التفاوض السابقة التي خاضتها المنظمة مع الحكومات المتعاقبة، فلا يبدو أن هناك مَواطِن توتّر وعداء، إذ سُجّل التزام من الحكومة الحالية بمضمون الاتفاقات، ما يضع الطرفين في موقع مريح. ويُفهم من ذلك أيضاً أن التصادم المتوقَّع بين حكومة نجلاء بودن ومن ورائها سعيد، والاتحاد، حول ملفّ الإصلاحات القائم أساساً على خفض كتلة الأجور وإصلاح المؤسسات الحكومية، مؤجَّل لغاية استكمال الإصلاحات السياسية.
لا تبدو فكرة الاستفتاء على تعديل الدستور مقبولة لدى خبراء القانون


وبينما يتصاعد النقاش حول مضمون قانون المالية التكميلي وضيق الموارد المطلوبة لتمويل موازنة الدولة للسنة المالية المقبلة، وبينما لم يفصح سعيد عن إصلاحات اقتصادية عميقة، فهو أعلن عن مبادرته التي سبق له أن قدّمها أيّام حكومة إلياس الفخفاخ، ووئدت قبل وصولها إلى البرلمان، والمتمثّلة في مبادرة الصلح الجزائي، مشدّداً على اختلافها عمَّا جرى إقراره في السنوات الماضية، وملمّحاً إلى قانون المصالحة الاقتصادية والإدارية مع مَن تورّطوا مع نظام بن علي. يذكر أن حركة «النهضة»، وحليفها حزب «نداء تونس»، مرّرا القانون المذكور بمنطق المغالبة، ولم يقدِّما شيئاً للتونسيين على مستوى المداخيل، بينما منحا عفواً للمتورطين وإبراءً لذممهم. وتتمثّل المبادرة الجديدة في صلْح، لا مع المتورّطين مع النظام السابق فقط، وإنمّا مَن «نهبوا أموال التونسيين خلال العشرية الماضية»، على حد قول الرئيس.
ولم يبرز ردّ فعل «النهضة» على ما أعلنه الرئيس في آخر ظهور له ليل الخميس الماضي. ولكن اللافت خروج الغنوشي بدوره عن صمته، إذ كتب نصّاً طويلاً عن الثورة والثورة المضادة والانقلاب الذي جاء «كجرعة أوكسجين» في مناخ اتّسم بالإحباط نتيجة غياب الإنجاز والإصلاحات. وبدا وكأن هذا الخروج «الفاقد للمعنى» مجرّد محاولة لاقتسام الفضاء العام، وأضحى الرجل الأول في النظام السياسي، على امتداد سنتين تقريباً، باحثاً عن هامش صغير للفعل بجانب سعيد، تماماً كما كان وضع هذا الأخير قبيل 25 تموز الماضي، وهو أمر يتنزَّل في سياق «الحرب سجال، يوم لك ويوم عليك»، كما وصفها الغنوشي. يعفي الغنوشي، في مقالته، حزبه من مسؤولية خراب العشرية الماضية؛ حتى القرارات السياسية التي اتُّخذت بالإجماع في مؤسسات الحزب كانت، وفق قوله، «نتيجة ضغط الثورة المضادة ورفض الطبقة السياسية المعارضة ما قبل 2011 للتحالف مع النهضة والعمل معها وعدم توفّر مناخ إقليمي موات واعتلاء الشعبوية إلى قيادة العالم مع دونالد ترامب».
من الطبيعي أن تستعيد «النهضة» خطاب المظلومية حتى تحافظ على قواعدها، ومن المتوقَّع أيضاً أن تبني سرديات جديدة لمقارعة إجراءات سعيد، تؤسِّس بها لصورة فاضلة ونضالية جديدة عن الحركة فقدتها نتيجة سياساتها على مرّ السنوات العشر الأخيرة.