لدى هبوط طائرة تقلّه مع مئات من الغربيّين واللّاجئين الأفغان في الدّوحة، أسِف النائب الأميركي، إريك سويلويل، لكون بلاده في عهد دونالد ترامب كادت تخسر قطر كقاعدة في الخليج في عام 2017، حين انحاز الرئيس السابق، دونالد ترامب، إلى «رباعيّ المقاطعة» ضدّها، وكاد يوافق على عمل عسكري سعودي يُطيح بقيادتها. ولم يكن تراجع ترامب آنذاك صدفة، فقد تعرّض لضغوط كبيرة من فريق الأمن القومي التابع له، ووزارتَي الدفاع والخارجية، للتخلّي عن انحيازه هذا. ومع مضيّ خلَفه، جو بايدن، في تنفيذ قراره بالانسحاب من أفغانستان، تُمنَح قطر دوراً إضافياً على حساب قوى إقليميّة منافِسة لها، انكفأت إلى مقاعد المتفرّجين. وبينما يتراجع نفوذ الولايات المتحدة الأميركية لمصلحة القوى الإقليمية الكبرى، مِن مِثل إيران وتركيا، تعمل الدوحة الآن كوكيل لتصفية التركة الأميركية، التي ستؤول حتماً، بالمعنى العسكري والأمني، إلى تلك القوى، ولاعبين دوليّين كبار، كروسيا، بعد أكثر من سبعة عقود من بدء صعود النفوذ الأميركي في المنطقة. على خطَّين، أدّت الدولة الخليجية دورها في أفغانستان: الأوّل هو توفير قاعدة وسيطة للقوات المنسحبة ولآلاف الأفغان الذين تعاونوا بشكل أو بآخر مع الاحتلال؛ والثاني توفير الظروف المؤاتية لملءٍ منظّم للفراغ الذي تركه الأميركيون، من خلال التنسيق بينهم وبين حركة «طالبان» على مدى سنين من التفاوض، والذي أتاح للمنسحبين الوقت الكافي للخروج عبر مطار كابول، الذي تعمّدت الحركة البقاء بعيداً عنه إلى أن تمّ الانسحاب. ولا يستند هذا الدور القطري إلى فراغ، بل إلى ركيزة أساسية هي قاعدة العُديد العسكرية الأميركية القائمة على أراضي قطر، والتي تمثّل أكبر قاعدة للقوات الأميركية في الشرق الأوسط، ويقيم فيها أكثر من عشرة آلاف جندي، مع معدّات متطورة، تؤهّلها لتكون القاعدة الرئيسة لعمليات القيادة الأميركية الوسطى، خارج المركز الرئيس لها في لا تامبا في فلوريدا. ويعود تاريخ إنشاء القاعدة إلى عام 2001، وهو العام نفسه الذي بدأ في نهاياته غزو أفغانستان انتقاماً لهجمات 11 أيلول. وكما لو أن قطر أُعدّت منذ ذلك الوقت للمهمّة المرسومة لها، فإنها مثّلت المُنطلق الرئيس للهجوم على أفغانستان، وفي الوقت نفسه، كان إعلامها المنسجم مع تلك المهمّة المستجدّة، والمتمثّل في قناة «الجزيرة»، يظهّر صورة «التعاطف» مع تنظيم «القاعدة» وحركة «طالبان»، من الجهة الأخرى للجبهة في جبال تورا بورا. ومذّاك، أتقنت الدوحة لعبة التعويض على الضحية، من موقع العلاقة مع المعتدي، وهو ما تجلّى، مثلاً، في عام 2006 خلال العدوان الإسرائيلي على لبنان، وفي كلّ الاعتداءات الإسرائيلية على قطاع غزة تحديداً.
ثمّة ركيزة أساسية للدور القطري هي قاعدة العُديد الأميركية على أراضي الإمارة


على أن دور قطر كان في الأساس منوطاً بالسعودية، إلى أن وقع زلزال 11 أيلول، الذي لم تكن المملكة جاهزة بعده لاستقبال القوات الأميركية بصورة مباشرة، نظراً لما خلّفته الهجمات من تأثيرات سلبية على العلاقات بين واشنطن والرياض - على رغم استمرار التحالف بينهما -، بل إنه في العام نفسه، أي 2001، انسحب ما بقي من جنود أميركيين في السعودية، بحجّة عدم الحاجة إليهم، والحساسية التي يمثّلها ظهورهم في الشوارع بملابس غير محتشمة. ومنذ انقلاب الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني على أبيه عام 1995، بدأ دور قطر يرتسم كدولة علاقات عامة في المجالَين السياسي والعسكري، مستعدّة لتوظيف ثروتها الهائلة في القيام بالوساطات، أيضاً في المشاركة، كما حدث في الحرب السورية وإلى حدّ أقلّ الليبية، في تمويل ودعم ورعاية مجموعات عسكرية بعضها ينتمي إلى تنظيم «القاعدة»، أو قريب منه مثل «جبهة النصرة» و«أحرار الشام»، وإسلاميّي ليبيا. وبعد توفير القاعدة المرتكَز (العُديد)، كان من لوازم المهام المنوطة بقطر أن تنسج علاقات بكلّ الأطراف الفاعلة في هذه المنطقة بنسب مختلفة، مع المحافظة على نوع من الانتماء الطبيعي إلى العالمين العربي والإسلامي، لأنها من دون ذلك، لم تكن لتستطيع إقامة علاقة جيّدة بإيران، وفي مراحل معيّنة «حزب الله»، وعلى طول الخطّ مع «الإخوان المسلمين» و «حركة «حماس»، ومع تنظيم «القاعدة» وحركة «طالبان»، وفي الوقت نفسه أن تحافظ على اتصالات مع إسرائيل، مشفوعة بمواقف لعلّ أفضل من عَبرّ عنها هو رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري السابق، حمد بن جاسم، الذي قال إن بلاده كانت أوّل مَن أقام علاقات مع إسرائيل، مع أنها لم تكن بالحميمية التي تَسِم سلوك بعض الدول تجاه تل أبيب، مبدياً تأييده المستمرّ للسلام مع العدو.
وعلى رغم كسْب قطر الكثير من معاركها السياسية، بفضل «العُديد» أولاً، إلّا أن ذلك لم يكن هو الوضع دائماً. فاحتلال العراق في المرّتين (2003 و2014)، ومن ثمّ الدخول إلى سوريا بعد احتلال العراق للمرّة الثانية انطلاقاً من القاعدة نفسها، بحجّة محاربة تنظيم «داعش»، آلا إلى فشل ذريع انتهى بانسحاب كانت واشنطن تريده كاملاً من سوريا، وتراجعت عنه تحت توسّلات إسرائيل، وخروج كلّي آخر من العراق يُتوقّع إنجازه بحلول نهاية هذا العام. كما انتهى إلى فشل أكبر، المشروع الدّامي الذي موّلت الدوحة جزءاً رئيساً منه، بهدف إسقاط دمشق. أيضاً، مُني مشروع تولية «الإخوان المسلمين» الحُكم في عدد من الدول العربية، بإخفاق كبير، تراجَع بعده موقع الجماعة إلى مدارك لم يشهدها تاريخها. ومع ما تَقدّم، استفادت قطر وما زالت من دعمها لـ«الإخوان»، سواءً في المشاريع الخارجية، أو حتى في التوازن المجتمعي الداخلي الذي يحمي أسرة الحكم، من دون أن يكون الحكم نفسه «إخوانياً» صريحاً.
قطر، التي بدأت الغزوات الأميركية منها في مطلع الألفية، أدّت المطلوب منها ببراعة فائقة، فيما يبدو أن واشنطن لن تحتاج لحراسة مصالحها في هذه المنطقة في المستقبل، أكثر من قاعدة العُديد، وإسرائيل!