اشتغل الإعلام الرسمي السوري، خلال الأيام الماضية، وصولاً إلى إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية، أوّل من أمس، على تقديم "سردية الانتصار". وكذلك، عمل معظم المسؤولين السوريين في السياق نفسه، حيث لم يفوّتوا فرصة واحدةً لاعتبار كل احتفال وكل مسيرة مؤيّدة للدولة وللرئيس، وكلّ صوت نزل في صندوق الاقتراع، رسالةً مدوّية إلى الخارج، سواء العربي أو الغربي.[اشترك في قناة ‫«الأخبار» على يوتيوب]
تُعيدنا سردية الانتصار التي تتردّد في كل وسيلة إعلام حكومية وشبه حكومية، إلى سابقتها التي سادت في النصف الثاني من عام 2018، عندما سيطرت الحكومة السورية على أجزاء واسعة من جغرافيا البلاد، ولا سيما درعا والغوطة الشرقية وريف حمص الشمالي، وهي مناطق كانت حاضرة في الانتخابات الأخيرة، وتمّ التركيز عليها بشكل كبير إعلامياً، وجرى تظهيرها وكأنها مناطق تأييدٍ وموالاةٍ لا معارضةَ فيها، ولا معارضين. مع العلم أن هذه المناطق ذاتها وغيرها، كانت تخرج باستمرار في مسيرات استعراضيّة مؤيّدة للحكومة قبل عام 2011، ثم ما لبثت أن تحوّلت ساحاتها إلى ساحات التظاهر الرئيسة ضدّ الدولة، في غضون يوم وليلة، ولم تعد إلى سلطة الدولة إلّا بقوّة السلاح.
بعد انتصارات عام 2018 العسكرية، شهدت البلاد تدهوراً اقتصادياً في غضون أشهر قليلة، يفوق حجم التدهور خلال كل سنوات الحرب التي سبقت ذلك التاريخ. وشهد السوريون أزمة محروقات غير مسبوقة في نهاية ذلك العام، تبعتها أزمات خبز ومواصلات ومعيشة وغيرها. والأهم من كل ذلك، أن سعر صرف الدولار بين الانتصار العسكري السابق، والسياسي الحالي، قد تضاعف مرّات عدة. التدهور الاقتصادي والمعيشي، الذي تبع سردية الانتصار العسكري تلك، خلّف موجة إحباط واسعة لدى المؤيّدين للحكومة السورية، وبدأنا نسمع أصوات تذمُّر من ناشطين لم يسبق لهم إلّا أن "بصموا" على كل ما تقوله السلطة، وتبنّوه وروّجوا له بين الناس. وبدأنا نشعر بتغيّر المزاج الشعبي العام بشكل سلبيّ، في ظلّ عجز الحكومة عن تلبية احتياجات معيشة المواطنين، وغياب الشفافية والمساءلة والمحاسبة عن أداء موظفيها الكبار والصغار، وهكذا بدت الجغرافيا السورية المُحرّرة عبئاً، بعدما كانت نصراً.
الانشغال بتوجيه الرسائل إلى الخارج، ربّما أنسى مُرسليها بأن هنالك داخلاً يسمع ويرى أيضاً


ولا يبدو سيناريو اليوم مختلفاً كثيراً عن سابقه؛ فالانشغال بتوجيه الرسائل إلى الخارج، ربّما أَنسى مُرسليها بأن هنالك داخلاً يسمع ويرى أيضاً، وأن إعلان الانتصار يترتّب عليه التزامات داخلية كثيرة، يحتاج إليها المواطن لينتقل إلى حالة معيشيّة أفضل. ومن الأجدى للمسؤولين، بدل تكثيف سرديّات الانتصار، أن يقوموا بإجراءات وسياسات تكون ملموسة بالنسبة إلى الناس، وليست مجرّد وعود وأحلام في بيانات حكوميّة لم توفّر ربطة خبز لجائع، ولا كرامة لمواطن يقف في طابور طويل ليومين، للحصول على أسطوانة غاز أو ليترات قليلة من البنزين، أو ينتظر لأسابيع رسالة حكوميةً تصل هاتفه لينال حصّته من السكّر والأرزّ، والمواد التموينية المدعومة. وهكذا، فإن ثمّة ضريبة تترتّب على خطاب الانتصار هذا، على الحكومة والمسؤولين أن يدفعوها حتماً، وهي أن يستيقظ المواطن السوري ما بعد الانتصار، على راتب يكفيه ولا ينتهي في غضون أيام قليلة على أحسن تقدير، وأن يصبح الاقتصاد السوري قويّاً لا تهزّه أقلّ نسمة خارجية أو داخلية. وكذلك، فإن المُعلِن عن الانتصار عسكرياً وسياسياً، قد آن له أن يبدأ مرحلة إعادة الإعمار، ليجد النازحون بيوتاً يعودون إليها، لا ركاماً يبكون على أطلاله.
لقد افتقدت حكومات سوريا المتعاقبة لقيم أساسية في الحكم، كالشفافية والتشاركية والمساءَلة والمحاسبة، على رغم رفعها شعارات وخُطباً، في كل مرّة تأتي فيها حكومة ثم ترحل. وتحت هذه الشعارات، ظلّ الحصول على معلومة من الحكومة عن الخبز يبدو وكأنه تهديد للأمن القومي، ومساءلة مسؤول فاسد كأنه استسلام للغرب. وكذلك غابت عن الحكومات المتعاقبة، الخطط والمؤشّرات والأرقام القابلة للقياس، في مقابل حضور الخطاب الفضفاض والواسع والدعائي والتعبوي، فكانت النتيجة تدهوراً بعد تدهور.
ولطالما كان ثابتاً في هذه الحكومات، شكل عملية التشكيل التي تتمّ بالطريقة نفسها، ويُؤتى بالوزراء وسياساتهم من السلّة ذاتها التي جاء منها أسلافهم. بعد الانتخابات الأخيرة، ستُصبح الحكومة السورية بحكم المستقيلة دستورياً، وسيبدأ المعنيّون بتشكيل واحدة جديدة، في وقت تضجّ فيه البلاد بالإعلان عن انتصار جديد. فهل ستكون الدولة بعد الانتصار السياسي، على قدر التحديات؟ وهل سيُمنح السوريون مكافأة صمودهم وتشاركهم مع الحكومة في تظهير سردية الانتصار؟ لقد آن للسوريين أن يجنوا حصاد سرديّات الانتصارات، ولو لمرّة واحدة.