القاهرة | كأن الزمن يعيد نفسه، لكن بصورة معاكسة. إثيوبيا، التي حرّضت السودان على مصر من أجل إثارة ملفّ حلايب وشلاتين إبّان حكم عمر البشير، وتحديداً ما بين 2011 و2013، هي نفسها التي تشتبك معه اليوم من أجل السيادة على نحو 600 ألف فدان في منطقة الفشقة الواقعة على الحدود بينهما، وتحديداً في إقليم أمهرا. المنطقة المتنازع عليها أخفقت اللجنة المشتركة للبلدين في الوصول إلى اتفاق بشأنها، خاصة مع تمسّك الخرطوم بأن الحدود مقسّمة وواضحة ولا ينقصها سوى وضع العلامات الحدودية بناءً على اتفاق 1903 بين الحكومة البريطانية بصفة السودان مستعمرة بريطانية، وبين الإمبراطور الإثيوبي مِنِليك الثاني، والذي تبعته اتفاقية 1972 بين البلدين.
كان اجتماع أمس عسكرياً مخابراتياً بامتياز، وشاركت فيه شخصيات لم تُذكر في البيان (من الويب)

ومنذ مدّة، استغلّ السودان أزمة إقليم التيغراي الأخيرة مع الحكومة المركزية الإثيوبية، ليعمد إلى استعادة أرضه المحتلّة بالقوة المسلّحة، وهو ما أثار غضب أديس أبابا التي انتقدت تصرّفات الخرطوم دبلوماسياً، من دون أن تتحرّك عسكرياً بسبب انشغال الجيش المركزي في مواجهة قادة التيغراي المتمرّدين، فضلاً عن تخوّفها من الدخول في صدام عسكري ستقف فيه القاهرة مع الخرطوم إلى جانب أطراف آخرين، الأمر الذي عبّر عنه المتحدّث الرسمي باسم الخارجية الإثيوبية، دينا مفتي، من دون أن يَذكر مصر بالاسم. وتواجه الحكومة المركزية في إثيوبيا إشكالية الاعتراف بأن الفشقة سودانية، لأن هذا سيدخلها في أزمة مع أبناء قومية «الأمهرة» التي تسيطر على أجزاء من الأراضي هناك. وقد أخفقت محاولات رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، تهدئة الأزمة الحالية، خاصة أن الخرطوم متمسّكة باستعادة أرضها المحتلة الآن، الأمر الذي من شأنه تعزيز رصيد القادة العسكريين في «مجلس السيادة» الانتقالي في السودان، شعبياً.
مع أن الأزمة تبدو في مصلحة القاهرة لكنّ حرباً كبيرة ستقوّض الاستقرار في المنطقة


وسط ذلك، استقبل الرئيس عبد الفتاح السيسي، في العاصمة القاهرة، عضو «مجلس السيادة»، الفريق أول ركن شمس الدين كباشي، على رأس وفد سوداني رفيع ضمّ عسكريين. وعلى رغم أن الزيارة حملت طابعاً رسمياً تحت عنوان مناقشة قضايا عديدة، لكن البيان الصادر عن رئاسة الجمهورية لم يُخفِ اطّلاع السيسي على آخر التطوّرات في شأن مستجدّات التوتر على الحدود السودانية - الإثيوبية، إلى جانب مسار المفاوضات في شأن «سدّ النهضة». ومع أن اللقاء في قصر الاتحادية أمس لم يكن الوحيد، فإن الهدف العسكري هو الأوضح، ولا سيما أن غالبية المناقشات شارك فيها مدير «المخابرات العامة»، اللواء عباس كامل، إلى جانب عسكريين آخرين شاركوا في لقاءات ثانية لكن لم يرد ذكرهم في البيان، الذي تَضمّن تأكيداً لدعم السودان في المواقف المختلفة، لكون هذا الأمر من «ثوابت السياسة المصرية» بحكم «الروابط الأزلية ووحدة المصير المشترك».
مصطلحات قديمة أعادت الرئاسة استخدامها، لكنها تحمل دلالات على الاهتمام المصري المكثّف بالصراع الحدودي الذي سيكون نقطة جوهرية تُمكّن القاهرة ليس من الحصول على دعم سوداني في مطالبها في شأن «النهضة» فقط، بل وعلى ورقة ضغط أخرى على إثيوبيا التي حاولت مراراً إبقاء مصر منفردة في أزمة السدّ. مع ذلك، لا تبدو الأخيرة راغبة في تفاقم الوضع إلى نزاع مسلّح فوري وسريع، لخطورة مثل هذا النزاع على الاستقرار في القرن الأفريقي وحوض النيل. لكن تمسّك كلّ طرف بوجهة نظره يجعل الصراع أشبه بقنبلة تنتظر الانفجار في أيّ لحظة ولأتفه الأسباب، خصوصاً في ظلّ دعم مصر للتحرّك العسكري السوداني انطلاقاً من مبدأ «مساندة الجيوش العربية».
في المقابل، لا يبدو الدعم المصري للحلول السياسية في هذه الأزمة موجوداً، أو على الأقلّ هو ليس معلناً، فمصر لم تطلب اللجوء إلى الاتحاد الأفريقي أو حتى جامعة الدول العربية لبحث الأزمة، بل هي تكتفي بالمتابعة والتواصل والتنسيق مع السودانيين، إلى جانب متابعة الوساطة التي يسعى جنوب السودان إلى خوضها، من دون أن تبدي رأياً حاسماً أو منحازاً إلى أيّ طرف.