تستحقّ السعودية، عن جدارة، جائزة أغبى إخراج لأغبى جريمة مرتكَبة في العصر الحديث. الأحكام النهائية الصادرة في جريمة اغتيال جمال خاشقجي لاءمت المكانة الرفيعة لقضاء آل سعود، حتّى بدت أكثر هزلاً من المحاكمة نفسها، التي، للمناسبة، أحيطت بسرّية تامّة، إلى درجة أن أحداً لا يعرف إن حدثت في الواقع أو في عالم موازٍ. بيّن قضاء المملكة، بعد استهلاك روايات بوليسية بدائية كثيرة، أن هناك جريمة وقعت، لكنه فضّل أن لا يُسمِّي أيّ مجرم ضالع فيها. هكذا، نطق بأحكام مخفّفة ضدّ مجهولين، في سابقةٍ لم تخطر في بال أحد. "رأفة" أبناء خاشقجي، الذين قرّروا، قبل أشهر قليلة، "العفو" عن قَتَلة أبيهم، بعد جوائر ترضية حازوها على شكل منازل فخمة ورواتب شهرية مقابل صمتهم، حالت دون توجيه أحكام بالإعدام، فجاء الحكم بحبس المدانين، وعددهم ثمانية، لفترات تراوح بين 7 سنوات و20 سنة. أحكامٌ أرادها ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، أن تكون بمثابة خاتمة سعيدة، وكذا "عادلة"، لكلّ ما قاساه على مدى عامين بفعل جريمة ارتدّت سلباً على صورة "الإصلاحي" الذي بات أقصى طموحه ترميم ما هشّمته "حادثة القنصلية"، ولكن عبثاً.على مسافة أقلّ من شهر واحد مِن الذكرى الثانية لاغتيال خاشقجي في القنصلية السعودية في إسطنبول، لا تزال اللعنة تطارد المملكة ووليّ عهدها الغارق في إدارة مشروع التحوّل الفاشل المُسمّى "رؤية 2030". مشروعٌ أراد ابن سلمان أن يُشكِّل درّة إبداعاته في الطريق إلى العرش، فوقعت الجريمة "من غير علمه"، وهرب المستثمرون الذين قاطعوا منتدى "دافوس في الصحراء" بنسخته الثانية عام 2018، فيما لم يجمع في العام التالي استثمارات يُعتدُّ بها، وصولاً إلى إرجاء انعقاد نسخة هذه السنة بفعل انتشار وباء "كورونا" إلى موعد حدّده المنظمّون في بداية 2021. يبقى أن الحدث الأبرز الذي ينتظره الأمير الشاب - علّه يزيل الترسبّات العالقة من الماضي القريب -، يتمثّل في استضافة الرياض قمّة "مجموعة العشرين" في تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، في مسعىً لإنعاش صورتها على المستوى الدولي.

تبدّلت الرواية السعودية الرسمية مراراً حيال قضية اغتيال خاشقجي (أ ف ب)

استباقاً لهذا الحدث، قرّرت المملكة الإفراج عن الجزء النهائي من رواية مقتلة القنصلية، لإسدال الستار، مرةً أخيرة، على قضية تركت تداعياتُها "أميرَ الإصلاح" في عزلة دولية. هكذا، أعلنت النيابة العامة السعودية "صدور أحكام نهائية تجاه المتّهمين بمقتل المواطن جمال بن أحمد بن حمزة خاشقجي"، مؤكدةً على لسان ناطق باسمها أن المحكمة الجزائية في الرياض "أصدرت أحكاماً بحقّ ثمانية أشخاص مدانين، اكتسبت الصفة القطعية (...) حيث قضت بالسجن 20 عاماً على خمسة من المدانين حيال كلّ فرد منهم، وثلاثة من المدانين بأحكام تقضي بالسجن لعشر سنوات لكلّ واحد منهم (مع إضافة) سبع سنوات لاثنين منهم". والأحكام النهائية صدرت، وفق الناطق، بناءً على "إنهاء الحقّ الخاص بالتنازل الشرعي لذوي القتيل"، بعدما قضت أحكام أوّلية، في السابق، بإعدام خمسة وسجن ثلاثة. وبصدور الأحكام النهائية "تنقضي الدعوى الجزائية بشقّيها العام والخاص وفقاً (...) لنظام الإجراءات الجزائية".
الرواية السعودية الرسمية تَبدّلت مراراً حيال القضية، فيما ظلّت براءة ابن سلمان وكلّ من يدور في فلكه الثابت الوحيد فيها. وعلى رغم خلاصة وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية التي ربطت في استنتاجاتها وليّ العهد بالجريمة، وحملة الكونغرس المناوئة للرياض، أبَت إدارة دونالد ترامب أن تتخلّى عن حليفها، مُتخطّيةً كلّ السخط الدولي الذي رافق الحادثة. انطلاقاً من هنا، يُفهم الردّ الباهت الذي صدر يوم أمس عن "مسؤول" في وزارة الخارجية الأميركية، اكتفى بالإشارة إلى أن واشنطن أخذت علماً بالأحكام، و"تراقب من كثب الإجراءات القانونية السعودية"، داعياً سلطات المملكة إلى "ضمان محاسبة جميع المسؤولين عن جريمة مقتل خاشقجي". الخلاصة التي وضعتها مديرة "سي آي إيه" في عهدة الرئيس، سبقت الإفراج عن تقرير المقرّرة الأممية أنييس كالامار الصادر منتصف العام الماضي، والذي خلص بدوره إلى أن الجريمة كانت متعمّدة ومدبّرة على أعلى المستويات. وفنّد التقرير تفاصيل مروعة، مشيراً إلى دور كلّ فردٍ في فرقة الاغتيال المؤلفة من 15 شخصاً بقيادة ماهر المطرب، والتي قال القضاء السعودي، في أحكامه الأوّلية، إنها اجتهدت وقرّرت قتل الصحافي بعدما رفض التفاوض، ما فتح الباب أمام تبرئة كبار المسؤولين: نائب رئيس الاستخبارات السابق أحمد عسيري، والمستشار المُقال في الديوان الملكي سعود القحطاني.
نطق القضاء السعودي قبل أقلّ من شهر واحد مِن الذكرى الثانية لاغتيال خاشقجي

بالعودة إلى الروايات الكثيرة، نفت المملكة بادئ الأمر مقتل خاشقجي داخل قنصليّتها، حتّى أن وليّ العهد أكّد شخصياً، في مقابلة مع وكالة "بلومبرغ" في 5 تشرين الأول/ أكتوبر 2018، أن الرجل خرج من القنصلية. لكن تلك القصة لم تصمد أمام المعلومات التي كانت تتأتّى تباعاً عبر الإعلام التركي والأميركي، ليعترف السعوديون بأنه قُتِل، ولكن "من طريق الخطأ". وفي تعليقها على إصدارات القضاء السعودي، أكدت كالامار أن الأحكام لا تتّصف بأيّ "مشروعية قانونية أو أخلاقية"، وأن "المدعي السعودي اضطلع بدور جديد في هذه المسرحية القضائية". من جهته، رأى الناطق باسم الرئاسة التركية، فخر الدين ألتون، أن النطق بالحكم النهائي "لم يرقَ إلى مستوى توقعات تركيا والمجتمع الدولي"، مضيفاً: "ما زلنا لا نعلم ماذا حصل لجثة خاشقجي، من أراد التخلّص منه، وإذا ما كان هناك متعاونون محليون، ما يثير شكوكاً حول مصداقية الإجراءات القضائية في السعودية". ووصفت خطيبة الصحافي المقتول، خديجة جنكيز، الأحكام بأنها "مهزلة"، متهمةً الرياض بإغلاق الملف من دون كشف هويّات المخطّطين الفعليين للجريمة. لكن وحده معتصم خاشقجي، محامي العائلة، بدا راضياً جدّاً إزاء المحاكمة. رحّب معتصم، باسم آل خاشقجي، بالحكم "العادل والرادع"، قائلاً في حديث إلى صحيفة "الشرق الأوسط": "الجرائم المرتكَبة من هؤلاء المحكوم عليهم جرائم كبيرة والأحكام في الحق العام المتضمنة عقوبات السجن المختلفة هي أحكام عادلة ارتضتها المحكمة التي تحكم بشرع الله والنظام العام".

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا