حتى فجر يوم الأربعاء الفائت، كانت التطوّرات الميدانيّة في أرياف إدلب وحماة وحلب، تسير ضمن سيناريوات متوقّعة.. لكن سيطرة المسلحين على مدينة سراقب الاستراتيجية، جنوبي شرقي مدينة إدلب على الطريق الدولي بين حماة وحلب، في ساعات الصباح الأولى من ذلك اليوم، قلب المشهد الميداني. بعدما استعادت الفصائل بلدة النيرب غربي سراقب، عقب هجمات متكررة، «صارت سراقب بلا هوامش دفاعية، تمنح الجيش قدرة على العمل فيها لصدّ الهجمات الواسعة والعنيفة»، بحسب ما يشير مصدر ميداني سوري، ما سهّل سقوطها. بعد ذلك، جاء استهداف الجنود الأتراك عبر غارة جوية في بلدة بليون في ريف إدلب الجنوبي، ليل الخميس ــــ الجمعة، ما أدّى الى مقتل أكثر من ثلاثين جندياً تركياً، بينما كان الجيش السوري يتقدم نحو سهل الغاب، والطريق الدولي حلب ــــ اللاذقية (M4).بعد ساعات قليلة من الحدث، بدأت القوات التركية حملة قصف مدفعي وصاروخي، وعبر الطائرات المسيّرة. وفي إطار «الرد» التركي على المقتلة التي ألمّت بجنوده، استهدف من مرابضه في بلدة تفتناز شرقي إدلب، منطقة طلحية شمالي سراقب. وفي الأثناء، حاولت الفصائل المسلحة، وخصوصاً «الحزب التركستاني»، اقتحامها، إلا أن هجماتهم المتكررة فشلت، ما دفع الجيش التركي الى شن حملة قصف واسعة ومكثفة، أدّت الى استشهاد 9 مقاتلين من حزب الله اللبناني، وعشرات من القوات العاملة تحت القيادة الإيرانية في سوريا، بالإضافة الى عدد من جنود الجيش السوري وضباطه. وطوال ذلك اليوم، بدت القوات الروسية بعيدة عن كل ما يجري، فلا طائرات تشن الغارات، ولا قصف صاروخي مكثف، ولا حتى منعٌ للمسيّرات التركية من التحليق. تُرك الجيش السوري وحلفاؤه، للطائرات المسيّرة والقصف المكثف، على مدى ليالٍ عدة. بدا الموقف كأن موسكو سحبت يدها من المعركة، وأرادت للجيش السوري وحلفائه أن يكملوها.
ظهرت تلك الليلة (الجمعة ــــ السبت)، كأنها الليلة التي ستشتعل فيها المعركة بين القوى الحليفة لدمشق في محور المقاومة، والجيش التركي، وخصوصاً مع استنكاف الجانب الروسي عن التحرك لوقف التصعيد التركي أو مواجهته، إلا أن ذلك لم يحدث. بعد الاستهداف مباشرة، سعت هذه القوى إلى إرسال وسطاء الى تركيا، لطلب خفض التصعيد، دونما جدوى. في الليلة التالية (السبت ــــ الأحد)، أصدر «المركز الاستشاري الإيراني» (ناطق باسم تجمّع القوى الحليفة لدمشق في محور المقاومة)، بياناً أعلن فيه، للمرة الأولى، أنه شارك في العمليات العسكرية لفتح الطريق الدولي حلب ــــ حماة (M5)، بالإضافة الى دعم الجيش السوري لحماية الطريق ومنع سقوطه. كذلك، أُعلن في البيان عن إرسال وسطاء الى الجيش التركي، إلا أن الأخير «لم يأخذ هذا الطلب بعين الاعتبار». لكن ذلك لم يدفع هذه القوى الى التحرك ضد الجيش التركي بشكل مباشر، إذ اكتفت بقصف الجيش السوري للمرابض التركية داخل الأراضي السورية، معلنةً أن قواتها «هي لمواجهة الإرهابيين»، وأنها «ليس لديها أي هدف أو قرار لمواجهة الجيش التركي، وأن القيادة مصرّة على الحل السياسي بين سوريا وتركيا».
دمشق وحلفاؤها مصمّمون على استعادة سراقب وفتح طريق (M4)


ورغم ما حمله البيان من «صراحة» لناحية رؤية هذه القوى للمعركة مع تركيا، إلا أنه حمل تهديدات مبطّنة تتعلق بالنقاط التركية المحاصرة خلف خطوط انتشار الجيش السوري، والقوى الحليفة منذ أكثر من شهر. إذ قال البيان إن «المواقع التركية داخل مناطق قواتنا، إلا أن عناصر اللجان وفصائل المقاومة لم تتعرّض لهذه القوات التركية احتراماً لقرار القيادة، ولا يزال هذا القرار ساري المفعول حتى الساعة». ورغم فشل الوساطات لوقف القصف التركي، إلا أن مصدراً سياسياً مطّلعاً على الاتصالات الأخيرة، أكد لـ«الأخبار» أن «التواصل الإيراني ــــ التركي قائم حتى هذه اللحظة، ويحاول الطرفان تجنّب الاشتباك المباشر»، مضيفاً إن حلفاء دمشق، «يرفضون، حتى الساعة، خوض معركة لا يريدونها ضدّ تركيا، وهم قد تفاهموا على ذلك مع دمشق مسبقاً». وفي المقابل، يؤكد مصدر مطّلع أيضاً، أن «الإيراني لا يريد مواجهة مع التركي، لكنه يعتبر ما يحدث تعنّتاً تركياً غير مبرّر، ويشبه المشهد التركي اليوم، المشهد العراقي في الحرب العراقية ــــ الإيرانية، لناحية توريط الأميركيين للرئيس العراقي صدام حسين بحرب ضد إيران، لم تكن إيران تريدها، لكنها تصدّت لها».
يوم أمس، ارتفعت حدة الاشتباكات الى مستويات غير مسبوقة في الشمال الغربي. فدارت معركة جوية في سماء منطقة إدلب. تمكن خلالها الجيش السوري من إسقاط 6 طائرات مسيّرة تركية. وعقب إسقاط الطائرة المسيّرة الأولى، أقدمت طائرات حربية تركية كانت تحلّق فوق الشريط الحدودي بين البلدين، على استهداف قاذفتين سوريتين من طراز «Su-24»، وأسقطتهما. أما على الأرض، فحتى ليل أمس، كان الجيش السوري وحلفاؤه يسيطرون على الضفة الشرقية للطريق الدولي في مدينة سراقب، بينما يسيطر المسلحون والقوات التركية على الضفة المقابلة. كذلك، أوقف الجيش السوري تقدم المسلحين في ريف حماة الشمالي وريف إدلب الجنوبي، ومنعهم من السيطرة على بلدة كفرنبل غربي خان شيخون.
احتدام المعارك، وتعقّد المشهد الميداني، يصبّان في مجمله في خانة واحدة: «استباق لقاء الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب إردوغان المرتقب في موسكو، يومي 5 و6 مارس/ آذار»، بحسب مصدر سياسي مطّلع على كواليس المفاوضات الروسية ــــ التركية. ويؤكد المصدر أن «للجانب التركي مطالب عديدة، مقابل التراجع عن سراقب وفتح الطريقين الدوليين M4 وM5»، وهناك «معلومات عن مطالبة تركية بالسيطرة على عين العرب على الحدود السورية ــــ التركية الشمالية، مقابل تقديم تنازلات في إدلب». كما يجري الحديث عن اتفاق روسي ــــ تركي مرتقب، «لم تجهز مسوّدته الأخيرة بعد»، بحسب المصدر. إلا أن «الجانب التركي عرض فيه فتح الطريقين الدوليين أمام المدنيين من كل المناطق، سواء ضمن سيطرة الحكومة أو المسلحين، مع إبقاء سراقب تحت سيطرة المسلحين، وتسيير دوريات تركية ــــ روسية مشتركة على طول الطريق من خان شيخون حتى سراقب، ومن الأخيرة حتى جسر الشغور»، بحسب معلومات المصدر.
ولا تنفي مصادر مقربة من دمشق هذه المعلومات، إلا أنها تؤكد أنها «لا تعدو كونها رفعاً للسقف بناءً على أوهام سرعان ما ستزول»، حيث «لن يسمح الجيش السوري، بالتعاون مع حلفائه، بالإبقاء على سراقب تحت سيطرة المسلحين». وتضيف هذه المصادر إن «المهادنة الروسية لأنقرة، في الأيام الأخيرة، دفعت الجيش التركي والفصائل المدعومة منه، الى التقدم اكثر وتوسيع سيطرتهم في جنوبي إدلب، ما منحهم أوراقاً تفاوضية أقوى». كذلك تشير المصادر الى أنه «سابقاً كان إردوغان يضغط للقاء بوتين، أما اليوم فتطلب موسكو التهدئة واللقاء في أسرع وقت مع إردوغان للتوصل الى اتفاق (...) هذا خطأ ارتكبه الروس، ويحاولون إصلاحه عبر إعادة تزخيم العمليات العسكرية لاستعادة السيطرة على سراقب، وقرى سهل الغاب».



الجيش يحاصر مسلّحين في الصنمين جنوباً
بدأ الجيش السوري، مدعوماً بقوات من «الدفاع الوطني» من أهالي محافظة درعا، أمس، عملية أمنية ــــ عسكرية في بلدة الصنمين شمالي مدينة درعا، بهدف القضاء على أهمّ تشكيل مسلّح رافضٍ للتسويات، يتزعّمه وليد زهرة، المعروف بـ«أبو خالد»، القائد السابق لحركة «أحرار الشام» في منطقة حوران. وتَخلّلت العمليةَ اشتباكاتٌ بالأسلحة الخفيفة والمتوسطة، أدّت إلى مقتل 5 مسلحين، واعتقال 6 آخرين، وانتشار الجيش في معظم أحياء المدينة التي أُغلقت مدارسها ومحالّها التجارية بفعل المعارك. وكان عدد من المسلحين قد تحصّنوا داخل الأبنية السكنية في منطقة العملية، ما دفع الجيش إلى تطويقها بهدف منع تسلّلهم أو هروبهم إلى مناطق مجاورة. وبالتزامن مع العملية العسكرية في الصنمين، شهدت عدة مناطق في درعا أحداثاً أمنية متفرقة، وتحرّكات للمسلحين بالقرب من نقاط تمركز الجيش، وخصوصاً في بلدة المزيريب شمالي غربي درعا، بغية التأثير على سير العملية الأمنية في الصنمين. كما شهدت المنطقة الغربية من محافظة درعا استنفاراً أمنياً، بعد قيام مسلحين باحتجاز عدد من مجنّدي الجيش وأسلحتهم، وقطع طرقات ومداخل رئيسية. أما في المنطقة الشرقية، فقد احتجز مسلحون في بلدة الكرك الشرقي عنصرين من الأجهزة الأمنية، وقطعوا الطرق الرئيسية أيضاً. وتأتي عمليات الجيش هذه بعد انتهاء المهل الزمنية المحدّدة لرافضي التسويات، والذين كثّفوا هجماتهم على مقارّه أخيراً، ونفّذوا عمليات خطف لضباط وأمنيّين، وعمليات اغتيال لكلّ من يتعامل مع الجيش من أهالي درعا والصنمين تحديداً. وتؤكد مصادر أمنية سورية أن «قوات الجيش والأمن تسيطر على الوضع، وقد تستغرق العملية أياماً عدة، إلا أنها ليست عملية عسكرية واسعة، بل عملية أمنية تنظيفية».
(الأخبار)