العسكر استأثروا بمكامن القوة والمدنيون لا يستطيعون إصلاح الجيش حل «الدعم السريع» مطلب مبدئي ولن نرضى بالأمر الواقع

منذ أعلن الحزب الشيوعي السوداني رفضه المشاركة في السلطة بمستوياتها المختلفة، ظل المراقبون يطرحون أسئلة عن موقعه في اللعبة السياسية. عزّز هذا التساؤل سلوك الحزب بعدما استمر قادته في انتقاد السلطة، مع أنه جزء من «قوى الحرية والتغيير»، بل أقرّ السكرتير العام محمد مختار الخطيب بأنهم ينظّمون المسيرات حتى «تحقق الانتفاضة أهدافها».

حديثك في جامعة أم درمان أخيراً أثار ضجة كبيرة، ماذا قلتم هناك؟
ما قلناه باختصار أن قوى المعارضة اتفقت طوال النضال على مواثيق لوضع برنامج ينفذ في المرحلة الانتقالية لتفكيك وتصفية الرأسمالية الطفيلية التي استولت على السلطة منذ 1989 بأيديولوجيا دينية، وأنه كان الهدف ألا تعود «الدائرة الشريرة»، أي ألا نقوم بانتفاضة تأتي بالديموقراطية ثم يحدث انقلاب عسكري نحاول من جديد إزاحته، ولذلك طلبنا عقد مؤتمر دستوري قومي يحضره ممثلون عن أهل السودان كافة، من أجل تغيير المسار، خاصة إذا كانت 60 عاماً تراكمت فيها الأزمة هي نتيجة للسير في مسار واحد. هذه هي منطلقاتنا في الاعتراض على مسار الحكومة الانتقالية.

لكنكم جزء من «الحرية والتغيير» التي هي السلطة الآن؟
نعمل في الداخل مع «الحرية والتغيير» لكن ما نراه أن هذه الانتفاضة لم تستكمل أهدافها بل تغيّر مسارها مع انقلاب «اللجنة الأمنية العليا» للنظام السابق وتسلمها السلطة واعتبار نفسها شريكة في التغيير. لذلك نحن نخاطب الجماهير ونوضح وجهة نظرنا، وسننظم مواكب (مسيرات) القوى الثورية لاستكمال الانتفاضة. أما عن موقعنا من القوى، فمن المهم توضيح أنه كان هناك صدام داخل هذه القوى قبل سقوط النظام، ولذلك كانت تتوحد ثم تحدث انقسامات ثم تتلاقى من جديد. كان هناك مساران، مسار يتجه نحو تسوية مع النظام وفق معادلة الهبوط الناعم، وهو مشروع تبنّته واشنطن منذ 2012 وعرّابه برينستون ليمان، وهدفه إشراك جزء من المعارضة مع النظام السابق من دون تغيير في جوهر السياسات، لكن لما بدأت تظهر علامات التصدع على النظام، طالب المسار الآخر بإحداث تغيير جذري. بعد سقوط النظام، تم توحيد كل قوى المعارضة، وسرعان ما ظهر تياران في «الحرية والتغيير»: قوى وصلت إلى مبتغاها وتريد أن ترث المرحلة السابقة، وقوى تعمل على استكمال الانتفاضة، ونحن منها. المشكلة أن بعض أحزابنا قائم على الولاء القبلي والطائفي، ولذلك يظهر الانفصام بين النخبة والقاعدة. الأزمة ستستمر إذا لم تعالج بالطريقة الصحيحة، وهذا ما نراه في الجزائر ولبنان.

ألا تخشون من فوضى لأن منسوبي النظام السابق يدعون إلى مسيرات أيضاً؟
هذه بحدّ ذاتها مشكلة، إذ كيف تقوم انتفاضة ويٌسمح للجانب الذي لا يرضى بالديموقراطية بأن يمارس نشاطه السياسي! بل الإعلام نفسه لم يخضع لتصفية حقيقية. ليس هناك تفكيك للنظام الذي قواه الآن متمركزة في المكوّن العسكري الموجود في الحكومة الانتقالية، فهو يهيمن على كل شيء، ويحمي مكتسبات النظام السابق. لن نقبل استغلال مسيراتنا لأهداف أخرى، مثل الدعوات إلى فصل الجنوب أو تقرير المصير والحكم الذاتي.
المشكلة أن جوهر الاتفاق الأخير لا يعبّر عن تطلعات الشعب، بل وصلنا إلى شراكة مع العسكر كانت لمصلحتهم، بعدما تقاسموا «المجلس السيادي» مع «الحرية والتغيير»، وهم من استأثروا بكل مكامن القوة في السلطة. المكوّن المدني لا علاقة له بالإصلاح أو بالإشراف داخل القوات النظامية (الجيش)، بل تمّ ضمّ ميليشيا «قوات الدعم السريع» وشرعنتها لتكون جزءاً من القوات المسلحة وضمن قانونها. أيضاً تمّ ضمّ 13 ألف عنصر في «هيئة العمليات» في جهاز الأمن والمخابرات إلى «الدعم السريع»، مع أنها كانت القوة الباطشة التي تضرب الشعب. أكثر من ذلك، صارت مسؤولة عن مكافحة الشغب، ما يعني أن رئيس الوزراء أو الهيئة التنفيذية خالية الوفاض من أي عنصر قوة! لذلك، نريد حكومة مدنية حقيقية. إذا لم تحل مشكلات السودانيين، فستتواصل الأزمة، مع أن الشعوب لديها القدرة على تصحيح المسار.
تستقبل بلادنا أكبر مركز لجهاز «سي آي إيه» في أفريقيا


ما طبيعة علاقتكم بالسلطة؟
نحن في إطار قوى الإجماع الوطني داخل السلطة، لكننا لا نشارك في مستويات السلطة الثلاثة: «المجلس السيادي» ومجلس الوزراء والمجلس التشريعي المرتقب تكوينه. ندعو إلى مدنية كاملة، لأن ما نحن فيه أمر واقع، ونتعامل معه على هذا الأساس. من الضروري أن نحافظ على «الحرية والتغيير» كقوى، بغض النظر عن الذين يخرجون عن المواثيق ويعملون عكس قواعدهم. مثلاً اتفقنا على حل الميليشيات («الدفاع الشعبي» و«الدعم السريع») واستيعابها وفق ترتيبات أمنية معروفة عالمياً، لأنه يهمنا أن يكون السلاح في أيدي القوات النظامية وحدها. لكن القوى و«المجلس العسكري» فعلوا العكس. نحن ندرك ولاءات الميليشيات الأيديولوجية والشخصية، وهي ستكون خطراً على الحريات ومستقبل السودان، ولذلك رفضنا التوقيع على «الوثيقة الدستورية».

تريدون حل الميليشيات أو سحب أسلحتهم؟
إذا لم تحل الميليشيات فلن تسحب أسلحتها، بل هناك محاولات لتطويرها وضخ أسلحة جديدة إليها. كذلك لا بد من تفكيك الشركات الأمنية والشركات الملحقة بالجيش، وإرجاع جبل عامر، وهو جبل لتعدين الذهب تسيطر عليه الآن «الدعم السريع». كل موارد السودان تحت يد المكوّن العسكري.

لماذا تصرّون على العزل السياسي لرموز النظام السابق؟
نحن مع المحاكمات أولاً. الرئيس المعزول (عمر البشير) ارتكب جريمة كبيرة بتقويض الدستور وسيطر على السلطة بانقلاب عسكري، ولذلك تجب محاكمته عن كل هذه الجرائم. نريد عزلهم عبر هذه المحاكمات.

من الذي أسقط قانون العزل داخل «السيادي» ومجلس الوزراء؟
نريد معرفة الحقيقة. كل الذي يدور أن النقاش استمر وقتاً طويلاً وحدث صراع حول القرارات، علماً بأن ما طُرح كان العزل السياسي لقادة نظام «المؤتمر الوطني» ورموزه، وهذا نفس ما قالته «الوثيقة الدستورية». حتى الآن وزير العدل يتحدث عن وثيقتين، ويتكرر السيناريو كل مرة لتمرير أشياء معينة لإسكات الجماهير. نريد أن يطرح القانون على الناس بشفافية.

لماذا تتمسّكون بمحاكمة البشير في «الجنائية الدولية»، رغم أنها تشكك في العدالة الوطنية؟
نحن مع المحكمة الجنائية الدولية لأنه ارتكبت جرائم إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب. اعترف الرئيس المخلوع بأنهم أبادوا عشرة آلاف شخص في دارفور والعالم يتحدث عن 300 ألف. ليس من حق أي جهة أن تعفي هؤلاء. أهل دارفور عندما زارهم رئيس الوزراء عبد الله حمدوك كان مطلبهم تسليم البشير وآخرين إلى «الجنائية». محاكمتهم في هذه المحكمة تعني صفة الدولية، وأنهم سيدانون عالمياً، فالمسألة ليست انتقاماً. هذا ليس فيه إهانة لقضائنا الذي لم يصل إلى هذه المرحلة. حتى قوانيننا لا توجد فيها هذه المحاكمات إلا إذا وضعنا قوانين جديدة. يجب أن يوصموا عالمياً مثلما حدث للنازيين والفاشيين.

لكن يقال إن انتقادكم لرئيس الوزراء وحكومته يعود إلى فصله مسؤولين ينتمون إلى حزبكم؟
لا نتخذ مواقفنا كرد فعل. الحزب الشيوعي يعتمد على المادية الدياليكتيكية والتاريخية في تفسير الواقع. إذا راجعتم كل أعمالنا منذ المؤتمر السادس، تجدون أنها تمضي في خط واحد يتماشى ويتّسق بعضه مع بعض إلى حدّ إسقاط النظام.

ما تصوّركم لتحقيق السلام في البلد؟
هناك مظالم وقعت نتيجة لسياسات معينة. الإصلاح يبدأ بالاعتراف بذلك، ولا سيما أزمة الازدراء للثقافات والأعراق. نعمل حالياً على توصيل الإغاثات والمساعدات إلى المحتاجين وتهيئة الظروف في القرى، بما في ذلك إبعاد العناصر العرب الذين رُحّلوا من بلدان مجاورة وسكنوا في أراضي النازحين. نريد إرجاع النازحين إلى قراهم وإتاحة سبل العيش الكريم لهم وتوفير الخدمات والأمن. ما يجري حالياً في التفاوض هو الأسلوب نفسه الذي كان يستخدمه النظام السابق: مفاوضات ثنائية وحلول جزئية. هناك صراع بين مجلس الوزراء و«المجلس السيادي»، لأن «الدستورية» تتحدث عن تكوين «مفوضية سلام» و«السيادي» يكون دوره إشرافياً فقط، لكن المجلس اختطف الملف وذهب يفاوض بنفسه. تحقيق السلام لا يتم في ستة أشهر، لأنه يحتاج إلى ديموقراطية وعدالة وتنمية حقيقية. يجب أن نتوافق على كيفية وضع السلاح وإيقاف الحرب، وندرس الترتيبات الأمنية كافة.

ما قراءتكم لاستمرار بعض الدول في الضغط على السودان؟
السودان يمتلك موارد كثيرة ولديه وضعه الجيو ـــ سياسي الخاص، إذ يجاور سبع دول ويطل على البحر الأحمر كمركز تجاري عالمي. النظام السابق فتح الطريق للدخول في محاور، مثلما يحارب جنودنا في اليمن في حرب لا ناقة لنا فيها ولا جمل، ومثلما تشارك قواتنا في «الأفريكوم» تحت إمرة وزير الدفاع الأميركي لحماية مصالح واشنطن في أفريقيا، ومثلما تستقبل بلادنا أكبر مركز لجهاز «سي آي إيه» في القارة... من هنا حدث هجوم على الانتفاضة من بعض القوى الخارجية لينحرفوا بها إلى ما يخدم مصالحهم. نحن مع علاقات جدية مع الشعوب ودول العالم، ونمد أيادي الصداقة في سبيل تبادل المنافع والخيرات، لكن هذا لا يعني أن نفرط في السيادة الوطنية أو مواردنا. لا نوافق أن تكون أرضنا أو أجواؤنا نقطة انطلاق للهيمنة أو إيذاء الشعوب حولنا.

السكرتير العام للحزب الشيوعي السوداني