يواجه الاقتصاد التونسي، بعد ثماني سنوات من الثورة، العديد من المشكلات: الضعف في القطاعات الإنتاجية، العجز التجاري، تعاظم الدين العام... ما هو تحليلكم للوضع الاقتصادي؟ هل يعاني الاقتصاد التونسي من أزمة بنيوية؟- ما من شك في أن الوضع الاقتصادي والاجتماعي في تونس ما زال صعباً. أغلبية المؤشرات، من معدلات النمو والاستدانة والبطالة والتضخم، تشير إلى أن هناك خللاً هيكلياً في اقتصاد صغير مثل اقتصاد تونس. فبعد عقدين تقريباً (سنوات التسعين والألفين) حققت خلالهما تونس بعض المكاسب الاقتصادية، تراجع مردود القطاعات الإنتاجية، وانتشر الفساد، وعمَّت الفوارق الاجتماعية. قامت الثورة من أجل الخلاص من الفشل الاقتصادي والسياسي الذي ميّز آخر فترة حكم (الرئيس السابق زين العابدين) بن علي، لكنها للأسف لم تنجح في إحداث تغييرات جدية على المستوى الاقتصادي. وقد زاد العنف السياسي والهجمات الإرهابية التي ميّزت سنوات ما بعد الثورة من سوء الأوضاع. حتى اليوم، لم يتغيّر النموذج التنموي التونسي القائم على تشجيع الاستثمار في المناطق الساحلية، وجذب السياح إلى أهم المدن السياحية، ودعم إنتاج الفوسفات والزراعة لإدخال العملة الصعبة والاعتماد على الدولة في القيام بكل أنواع الاستثمارات، على حساب القطاع الخاص. لم يتم العمل على تفعيل التحفيزات الممنوحة للاستثمارات في مناطق التنمية الجهوية، وإعادة هيكلة القطاع السياحي، وتطوير المناطق السياحية الداخلية، وتشجيع المبادرة الخاصة، والقيام بالإصلاحات الهيكلية الخاصة بالإدارة، والمؤسسات العامة، والصناديق الاجتماعية وبمنظومة الدعم.



النمو اللامتكافئ بين المناطق، ومعدلات البطالة المرتفعة، والإفقار المتزايد للسكان، أليست جميعها حقائق تؤكد فشل الثورة في تحقيق أهدافها المرتبطة بوقف احتكار السلطة والثروة من قِبَل مجموعة عائلات، والتصدي للسطو على الموارد ولتهميش مناطق عديدة؟
- بدأت مشاكل الاقتصاد التونسي في النصف الثاني من سنوات الألفين (حوادث الحوض المنجمي اندلعت عام 2008)، وليس مع اندلاع الثورة في كانون الأول/ ديسمبر عام 2010. كل ما قامت من أجله الثورة لم يتحقق حتى الآن للأسف. كسبت تونس الكثير على المستوى السياسي، وانتزع الشعب التونسي الحرية، وهو يخوض اليوم غمار التجربة الديموقراطية. ولكن فشل مكونات الطبقة السياسية التي تعاقبت منذ عام 2011 على الحكم، أخّر تحقيق جزء من أهداف الثورة الاقتصادية، وهي التنمية العادلة والمستدامة أساساً. يعود هذا الأمر إلى غياب الكفاءة والرؤية، والتركيز على تحقيق الأهداف السياسية للأحزاب، وإهمال الجانب الاقتصادي. هذا الفشل مردّه أيضاً إلى غياب الإصلاحات الهيكلية التي كنا قد تحدثنا عنها، وسيطرة نوع جديد من اللوبيات المرتبطة أساساً بالأحزاب السياسية على مفاصل الاقتصاد الوطني. لم تظهر إلى الآن طبقة جديدة من المستثمرين الشبان من جهة، ولم تنجح الحكومات في جلب مستثمرين كبار لهم وزنهم على الصعيد العالمي من جهة أخرى.

يقدم الاتحاد الأوروبي باستمرار هِبَات لتونس، آخرها تلك التي حصلت عليها في شهر حزيران/ يونيو الماضي، وهي بقيمة 150 مليون يورو. تهدف هذه الهبات إلى مساعدة الحكومة على تحقيق أولوياتها الاستراتيجية المُحدّدة من قِبَل الاتحاد، وهي «الديموقراطية»، و«الحكم الرشيد»، و«حقوق الإنسان»، إلخ... أليست هذه المفاهيم المجردة منفصلة عن الواقع الاقتصادي ـــ الاجتماعي في تونس، وعن أولوية الشروع في تغييرات اقتصادية جذرية؟ ما الذي يطلبه الاتحاد الأوروبي في مقابل هذه الهِبَات؟
- خلافاً لما يصرّح به الاتحاد الأوروبي، يَعتبر هذا الأخير شمال أفريقيا عامةً مصدراً للخطر. وبالتالي، وجب تأمين حدوده قبل أي شيء آخر. لذلك، وإضافة إلى إعطائه أهمية نسبية للجانب الاقتصادي، يركز على حماية حدوده ومنع الهجرة غير الشرعية إلى أراضيه. ومن منظوره، فإن الغاية الأولى التي ينبغي تحقيقها في مقابل الهبات التي يعطيها لدول شمال أفريقيا، هي الاستقرار ومنع الشباب من الوصول إلى الضفة الشمالية للمتوسط.
فشل الطبقة السياسية منذ عام 2011 أخَّر تحقيق أهداف الثورة الاقتصادية

الجانب الأوروبي له أيضاً مصالح اقتصادية عبر الشركات الأوروبية الموجودة في جنوب المتوسط، وسعت قيادات دول الاتحاد إلى خلق أنواع جديدة من التحالفات. إبرام اتفاقيات جديدة (على غرار اتفاق التبادل الحر الشامل والمعمق) مع دول الجنوب، ما هو إلّا تكريس لهدف المحافظة على هذه المصالح. ينبغي الإشارة أيضاً، في هذا الصدد، إلى أن اتفاقية مسار برشلونة التي وُقعت بين تونس والاتحاد الأوروبي في عام 1995 تضمنت أهدافاً عديدة وشعارات كبيرة مثل «دعم الديموقراطية»، و«الحوكمة الرشيدة»، و«تقارب الشعوب والثقافات»... ولكن في آخر المطاف، تم إهمال كل هذه الجوانب والتركيز على الجانب الأمني.

ما هي الشروط التي تسمح لتونس بالخروج من المأزق الاقتصادي ـــ الاجتماعي؟
- إلى جانب النجاحات الأمنية، تونس تحتاج في المستقبل إلى نجاحات اقتصادية واجتماعية. هذه النجاحات تتطلب استقراراً سياسياً. لنكن واقعيين. الخروج من الوضع الحالي يتطلب وقتاً، والحكومة الحالية مطالَبة بشيء وحيد، هو ضمان إجراء انتخابات نزيهة في ظروف مناسبة. كل ما نتمناه هو أن تفرز انتخابات آخر السنة الحالية حكومة قوية ومستقرة، تتضمن أناساً لديهم رؤية موحدة، وخاصة الكفاءة اللازمة لمعالجة الظروف الاقتصادية الصعبة. الحكومة التي ستفرزها الانتخابات المقبلة مطالَبة أيضاً بتجميع كل القوى الشبابية من حولها لخلق ديناميكية وروح جديدة. ويجب أيضاً إعادة التفكير في دور الدولة، وفتح حوار جدي مع الأطراف الاجتماعيين، وإعطاء الأهمية اللازمة للقطاع الخاص. أخيراً، وجب العمل على تفعيل الإصلاحات الهيكلية، بدءاً من ترشيق الإدارة، مروراً بإنقاذ المؤسسات العامة، وصولاً إلى إصلاح جباية الضرائب والصناديق الاجتماعية ومنظومة الدعم.