جوبا | تأتي تطورات الأوضاع الأخيرة في السودان لترسم المزيد من علامات الاستفهام حول مصير المرحلة ما قبل الانتقالية في جنوب السودان، على رغم إعلان المعارضة في الجنوب وثوقها بأن القيادة العسكرية الجديدة في الخرطوم ستظلّ ضامنة لاتفاق السلام الهش. كلام زعيم المعارضة، ريك مشار، جاء في أعقاب خلوة روحية في الفاتيكان جمعته بالرئيس سلفا كير، وانتهت أول من أمس بمناشدة البابا فرنسيس، الزعيمين، احترام الهدنة وحلّ الخلافات بينهما. لكن مشار أعرب، أمس، عن اعتقاده بأنه لا يمكنه وكير الوفاء بمهلة 12 أيار/ مايو لتأليف حكومة وحدة وطنية، مشدداً على ضرورة تمديد المهلة ستة أشهر إضافية، وهو ما ترفضه الحكومة.تزداد الأوضاع السياسية في دولة جنوب السودان تعقيداً، في ظلّ تباعد المواقف بين الأطراف الموقعة على اتفاق السلام، وفشلها في الاتفاق على الجدول الزمني الخاص بأنشطة الفترة ما قبل الانتقالية، والمُحدّدة بستة أشهر تنتهي بتأليف حكومة انتقالية في أيار/ مايو المقبل، يشارك فيها الفصيل الرئيس للمعارضة المسلحة بقيادة ريك مشار بنسبة 27 بالمئة من الحقائب الوزارية على المستوى الاتحادي، فيما تشارك مجموعة الرئيس سلفا كير بنسبة 55 بالمئة، على أن تذهب نسبة الـ 18 بالمئة المتبقية لجماعات المعارضة الأخرى. لكن في وقت يتمسك فيه سلفا كير بإعلان الحكومة الانتقالية الجديدة في 12 أيار/ مايو المقبل، يصرّ مشار على ضرورة تأجيل إعلان الحكومة، ومعالجة القضايا الملحة التي نصت عليها الاتفاقية، مثل تجميع قوات جميع الأطراف المسلحة، وإعادة تدريبها لتصبح نواة الجيش القومي للبلاد، إلى جانب حسم الجدل الدائر حول عدد الولايات، وخصوصاً بعدما عمد الرئيس الى زيادتها من 10 إلى 32 ولاية، وهو ما تعتبره المعارضة مخالفة صريحة لبنود الاتفاق، ما جعل وساطة «الهيئة الحكومية للتنمية في شرق أفريقيا» (الإيغاد) تحدد آلية لترسيم حدود الولايات، تشمل إجراء استفتاء للمواطنين حول عدد الولايات التي يرغبون فيها، أطلقت عليها اسم «المفوضية الفنية للحدود».
لقد أخفقت أطراف اتفاقية السلام، خلال الأشهر الستة المنصرمة، في تنفيذ الخطط المتعلقة بالفترة ما قبل الانتقالية، بسبب إحجام المجتمع الدولي عن تمويل تنفيذ بنود الاتفاقية، التي قالت الأطراف إنها تتطلب حوالى 114 مليون دولار، في ظلّ فقدان الثقة في الحكومة والمعارضة، وخاصة بعد انهيار اتفاق سابق وقّعت عليه الأطراف نفسها في آب/ أغسطس 2015، ما قاد إلى تجدد القتال بين قوات سلفا كير وريك مشار، وازدياد رقعة العنف المسلح، وظهور أكثر من خمس حركات مسلحة جديدة، هي: «الجبهة الوطنية الديموقراطية»، «الحركة الوطنية لجنوب السودان»، «جبهة الخلاص الوطني»، «الجبهة الفدرالية الديموقراطية» و«الحركة القومية الديموقراطية لجنوب السودان»، إلى جانب المخاوف من الفساد المستشري بين القيادات السياسية والعسكرية في جنوب السودان، والتي يمكن أن تسيء استخدم تلك المساعدات، وتحوّلها إلى حساباتها الشخصية في الخارج.
أخفقت الأطراف خلال الأشهر الستة المنصرمة في تنفيذ خطط الفترة ما قبل الانتقالية


وبرغم التطمينات التي أرسلها سلفا كير لرئيس مفوضية مراقبة وتقييم اتفاقية السلام، أول من أمس، حول ضرورة تكوين الحكومة في أيار/ مايو المقبل، إلا أن المعارضة المسلحة تعتبر أن هناك صعوبة حقيقية لحدوث ذلك عملياً. إذ يرى هنري أودوار، نائب رئيس المعارضة الموالية لريك مشار، أن أي محاولة لإعلان الحكومة الجديدة، من دون تنفيذ اتفاق الترتيبات الأمنية الخاص بتجميع قوات الأطراف وتدريبها، تمهيداً لنشرها في العاصمة جوبا قبل تكوين الحكومة، بجانب إقامة الاستفتاء المتعلق بعدد الولايات، يُعتبر نوعاً من المغامرة غير محمودة العواقب. ويضيف، في حديث إلى «الأخبار»، ان «أي محاولة لإعلان تأليف الحكومة من دون معالجة الملفات العالقة، وتحديداً الترتيبات الأمنية، سيعرّضها للانهيار، وتكرار السيناريو ذاته الذي حدث في تموز/ يوليو عام 2016، حين اندلعت المواجهات بين القوات الموالية للرئيس كير، وتلك الموالية لمشار، في محيط القصر الرئاسي» في العاصمة جوبا. ويطالب أودوار بضرورة «عقد اجتماع قمة طارئ بين الرئيس كير، وزعيم المعارضة مشار، لمناقشة العقبات التي تواجه سير تنفيذ بنود اتفاق السلام مع دُنُوِّ أجل الفترة ما قبل الانتقالية».
ويرى مراقبون من جنوب السودان أن غياب الإرادة السياسية لدى الأطراف الموقعة على اتفاق السلام، وانعدام الثقة بينها، هما السبب الرئيس وراء تزايد المخاوف المتعلقة بإمكانية صمود العملية السلمية. فالبعض يرى أن الحكومة الحالية، برئاسة كير، تسعى إلى شراء الوقت، وتكوين حكومة انتقالية من دون جيش قومي موحد، بما يسمح لها بالسيطرة على زمام المبادرة العسكرية، وخلق مؤسسات انتقالية ضعيفة، وتفادي الإصلاحات التي نص عليها اتفاق السلام في القطاعات الاقتصادية و الأمنية، حتى يتمكن رئيسها من دخول الانتخابات من دون منافس حقيقي من المعارضة المسلحة، وتحديداً فصيل مشار، الذي يُعتبر خصمه السياسي اللدود.
وبحسب وزير الإعلام في حكومة جنوب السودان، مايكل مكوي لويث، فإن تأليف الحكومة الانتقالية يعدّ مسألة جوهرية تبرهن على التزام الأطراف بالجدول الزمني للاتفاق، إذ يُمكن ترحيل كل القضايا التي لم تتمكن الأطراف من تنفيذها، بسبب غياب التمويل، إلى الفترة الانتقالية، لتنظر فيها الحكومة الجديدة التي ستضم في هياكلها ممثلين للأطراف الموقعة بحسب اتفاق تقسيم السلطة. وأضاف لويث، لـ«الأخبار»، إنه «لا يوجد أي سبب يمنع إعلان تأليف الحكومة في أيار/ مايو المقبل. فجميع المسائل التي فشلت الأطراف في تنفيذها، يمكن أن يتم ترحيلها ومناقشتها خلال الفترة الانتقالية، التي تنتهي بعد ثلاثة أعوام وستة أشهر». لكن وساطة «إيغاد»، من جهتها، نأت بنفسها عن مسألة تحديد موعد إعلان الحكومة الجديدة، ورهنت المسألة برمتها باتفاق الأطراف وقدرتها على تجاوز المعضلات التي تعترض تنفيذ القضايا العالقة. وقال السفير إسماعيل وايس، مبعوث «إيغاد» لجنوب السودان، لـ«الأخبار»، إن «قرار إعلان تأليف الحكومة الانتقالية أو تأجيلها مسألة خاصة بالأطراف وحدهم، لا دخل للوساطة بها»، مشيراً إلى أن «قرار إعلان تكوين الحكومة الانتقالية الجديدة أو تأجيلها يتعلق بالحكومة والمعارضة. إنها مسألة تتعلق بالجنوب سودانيين، وليست وساطة الإيغاد».
ويطرح المجتمع المدني في جنوب السودان رأياً مقارباً للموقف الحكومي الرسمي، يطالب فيه الأطراف بأن تمضي نحو تكوين الحكومة في أيار/ مايو المقبل، على أن يتم تحويل القضايا التي فشلت فيها الأطراف إلى الفترة الانتقالية، بمعنى أن تتولى حكومة الوحدة الوطنية المقبلة النظر فيها ومعالجتها مستقبلاً. وفي هذا الإطار، يرى مدير منظمة «تمكين المجتمع»، وممثل تنظيمات المجتمع المدني في مفوضية مراقبة تنفيذ اتفاق السلام في جنوب السودان، إدوموند ياكاني، في حديث إلى «الأخبار»، أن على «الأطراف الالتزام بالجدول الزمني لتنفيذ الاتفاق، والذي حدد عمر الفترة ما قبل الانتقالية بثمانية أشهر، ويجب ألا يتم تأجيل أو تمديد الفترة الانتقالية»، كما طالب «بتكوين الحكومة الانتقالية في تاريخ 12 أيار/ مايو، وأن يتم تحويل جميع المسائل التي فشلت الأطراف في تطبيقها إلى الحكومة الجديدة للنظر فيها وتنفيذها». وأشار ياكاني إلى أن مشكلة التمويل التي تواجه تنفيذ اتفاق الترتيبات الأمنية كان يمكن معالجتها بواسطة الحكومة من عائدات النفط، «لأن ذلك سيشجع المجتمع الدولي على تقديم الدعم مع بداية الفترة الانتقالية».
لقد أصبحت اتفاقية السلام التي وقّعت عليها أطراف النزاع في جنوب السودان، في أيلول/ سبتمبر المنصرم، على المحك. فالزمن لم يعد في مصلحة الأطراف، رغم فراغها من تكوين اللجان والمفوضيات المدنية والعسكرية الخاصة بالفترة ما قبل الانتقالية، لكنها لم تستطع المضي أبعد من وضع استراتيجيات نظرية. إذ إن هناك صعوبة كبيرة في إمكانية تنفيذ برامج العمل والاستراتيجيات الخاصة بتدريب القوات الذي يتطلب ثلاثة أشهر، وترسيم الحدود الذي يحتاج إلى خمسة أشهر بحسب الاتفاق. وإن قامت الحكومة بتوفير التمويل المطلوب، فإن الفترة المتبقية لن تسعفها للحاق بالمسار الزمني للاتفاق. هكذا بات اتفاق السلام، الذي تم التوصل إليه بعد خمس سنوات من القتال بين الحكومة والمعارضة، أمام احتمالين: إما أن يصمد في حال توصل الأطراف إلى تفاهمات تقتضي تأجيل إعلان الحكومة ومعالجة القضايا المعلقة، بحسب ما تراه المعارضة، أو أن يواجه الانهيار في حال فشل الأطراف في الوصول إلى تفاهمات مرضية في أيار/ مايو المقبل.