تونس | لا تخفى على أحد مكانة البنك المركزي في الدولة، خصوصاً عندما يكون مؤسسة مستقلة القرار وليس مجرد خزينة ملحقة بالقصر الجمهوري أو الملكي. ففي زمن هيمنة الاقتصادي/المالي على القرار السياسي، يُصبح منصب محافظ البنك المركزي في مثل أهمية وزارات السيادة، وربما أكثر. تعيين أو إعفاء محافظ البنك المركزي هو قرار سياسي بامتياز، وعادة ما يخضع لمعايير الولاء والقرب الأيديولوجي من السلطان. في بعض الأحيان يكون الإعفاء قناة لتصريف الغضب الشعبي إزاء فشل السياسة الاقتصادية للحكومة، وأحياناً يكون من ضمن «الأضرار الجانبية» في صراع أجنحة السلطة، ويمكن أيضاً أن يُمثّل إعلاناً لنهاية مرحلة وبداية أخرى.
نهاية رجل/زمن قديم

إقالة/استقالة الشاذلي العيّاري الذي كان يشغل منصب محافظ البنك المركزي منذ ست سنوات، تأتي على خلفية تواتر حضور تونس في قوائم سوداء أوروبية في ما يتعلق بالجنات الضريبية وتبييض الأموال وتمويل الإرهاب. هكذا تقول الرواية شبه الرسمية التي تَلقى شبه إجماع عند العامة والنخب على حد سواء. هذه القوائم ــ دعنا من مسألة موضوعيتها ومدى الاستغلال السياسي لها ــ تُعمِّق أزمة تونس الاقتصادية وتُضعف جانبها في أي مفاوضات مع «الشركاء» والجهات «المانحة». تمّ إلقاء اللوم، كل اللوم، على البنك المركزي، لأنّه لم يتفاعل مع تحذيرات (أوامر) الاتحاد الأوروبي وجهات أخرى. طبعاً تناسىت الحكومة ووسائل الإعلام المقرّبة منها مسؤولية الوزارات ذات الطابع الاقتصادي والهياكل الديبلوماسية. كذلك، ثبت بالوثائق أنّ إدارة البنك المركزي راسلت الحكومات المتعاقبة في تونس، وحذرتها وطالبتها بالتحرك، لكنها لم تتلقَّ رداً. لم تتم إقالة المحافظ عندما خسر الدينار التونسي أكثر من ثلث قيمته، ولم تتم إقالته عندما خسرت بنوك عمومية قضايا تحكيم دولي وأُجبِرت على دفع ملايين الدولارات نتيجة الإهمال والفساد، ولم تتم إقالته بسبب أي مصيبة من المصائب التي تتالت في عهده. لذا من الصعب (وحتى من الغباء) الاكتفاء بالرواية الرسمية لإقالته/استقالته.

كان العيّاري من ديناصورات
«دولة الاستقلال» الذين تأخر
انقراضهم


الشاذلي العيّاري، الشيخ الثمانيني الذي عمل (في مناصب عدة) مع أربعة رؤساء جمهورية (يعني الكل)، ومع ضعفهم من رؤساء الحكومات، هو ديناصور من ديناصورات «دولة الاستقلال» الذين تأخر انقراضهم أكثر من اللازم. هو ورئيس الجمهورية ورئيس مجلس نواب الشعب الحاليين، ينتمون إلى القرن العشرين، وبقاؤهم إلى اليوم فرضته حاجة الدول الراعية لتونس إلى رجال مضمونين يؤمّنون استقرار النظام والمصالح بعد خروج بن علي. طاقم قديم ومحنك يملأ الفراغ في انتظار تكوين الطواقم الجديدة المناسبة لمرحلة جديدة. خروج العيّاري قد يُمثّل مؤشراً آخر على نهاية حقبة في تونس: حقبة المسؤولين السياسيين الليبراليين، وبداية حقبة المسؤولين التكنوقراط النيوليبرالين. نهاية حقبة الدولة الوطنية الراعية والمستبدة وبداية حقبة الدولة «المعولمة» المستقيلة وشبه الديموقراطية.

محافظ جديد مطابق للمواصفات الجديدة

يبدو أنّ الجهات المانحة والراعية لم تعد تكتفي بوجود سياسيين طيّعين ومقرّبين لها في مراكز القرار في الدول النامية (اسم دلع للدول التي يُراد تأبيد تخلّفها)، بل تريد تعويضهم بموظفين وخبراء خبِرتهم في مجال «التعديل والإصلاح الهيكلي» لاقتصادات الدول الضعيفة. تونس بدأت تسير في هذا الدرب منذ كانون الثاني/يناير 2011؛ فأولى الحكومات التي تشكلت بعد هرب بن علي ضمّت عدداً من الوزراء الذين لا يعرفهم أحد، قدِموا من فرنسا وبريطانيا وألمانيا ودول غربية أخرى على عجل ليسهموا في «إرساء الديموقراطية والحوكمة الرشيدة». وزراء بلا ماض سياسي معلن، لكن لديهم عدة قواسم مشتركة: شهادات عليا من جامعات غربية مرموقة، وخبرة عمل في شركات متعددة الجنسية أو في مؤسسات مالية دولية، وحتى في سفارات أجنبية، ونظرة نيوليبرالية للاقتصاد والدولة. تكرر الأمر في الحكومات التي شكلتها «حركة النهضة»، وأصبح أكثر وضوحاً مع تولّي كلّ من مهدي جمعة ويوسف الشاهد منصب رئيس الحكومة؛ فالأول كان موظفاً كبيراً في إدارة تابعة للعملاق النفطي «توتال»، والثاني عمل مستشاراً وموظفاً في السفارة الأميركية بتونس.
السيّد مروان العباسي الذي اقترحه رئيس الحكومة لتعويض الشاذلي العيّاري في إدارة البنك المركزي، هو أيضاً مطابق تماماً لكرّاس الشروط الجديد. الرجل متخرّج في جامعة فرنسية مرموقة، وقام بالتدريس في جامعات غربية أخرى هي أيضاً مرموقة. وهو كذلك خبير اقتصادي من النوع الذي تحبّذه وتشتهيه الحكومات الغربية والمؤسسات المالية الدولية. الأهم من كل هذا أنّه موظف في البنك الدولي وممثل له في ليبيا. يعني أنّه الرجل المناسب في المكان المناسب. لكن، هو رجل مَن ولأجل ماذا؟ هذا هو السؤال الذي يجب أن يُطرح. الإجابة يمكن البحث عنها في الشروط والإصلاحات التي يطلبها الاتحاد الأوروبي والبنك الدولي من تونس. إصلاحات تهدف أساساً إلى تفكيك ما تبقى من الدولة الراعية وتقليص خدماتها وخصخصة مؤسساتها وتعويم عملتها الوطنية أكثر فأكثر. فهل سينجح العباسي في ما أبطأ العياري في تنفيذه؟ قد يقول البعض إنّ هذا حكم مسبق ومجحف على رجل لم يتسلم بعد منصبه، ولكن في تونس، لم يسبق لمسؤول أن خيّب ظننا. ورغم قوة إيماننا، لم يبقَ سنتمتر مربع واحد في أجسادنا لم يُلدغ من الجُحر نفسه...