■ بداية، كنت سفير العراق لدى واشنطن، في أشد المراحل خطورة (عام 2014). نريد أن نفهم منك لو سمحت، طبيعة العلاقة في تلك المرحلة بين العاصمتين، وهل فعلاً أنّ الأميركيين ربطوا أي مساعدة ميدانية من قبلهم إثر تمدد «داعش» بإجراء تغييرات سياسية في بغداد؟إدارة الرئيس السابق باراك أوباما لم يكن لها اهتمامات بمجريات الأحداث الأمنية والسياسية في العراق، وخصوصاً بعد خروج قواتهم في نهاية ٢٠١١. ونلاحظ ذلك جيداً مثلاً في عدم التطرق إلى العراق في خطب أوباما المختلفة، ومنها خطاب الاتحاد السنوي.

وعليه، تمّ إعطاء الملف لنائبه جوزيف بايدن للمتابعة والإدارة.
مع حلول عام ٢٠١٣، كان هناك تحفظ أميركي على سياسات رئيس الوزراء العراقي في ذلك الزمن السيّد نوري المالكي. ولعلّ أهمّ التحفظات كانت متعلقة بسياسات العراق تجاه سوريا والسماح للطيران الإيراني بعبور الأراضي العراقية نحو سوريا، وكذلك ملف (طبيعة) تعامل المالكي (من وجهة نظرهم) مع بعض أصدقاء الولايات المتحدة مثل وزير المالية السابق الدكتور رافع العيساوي وغيره.
طالب رئيس الوزراء المالكي بنفسه في واشنطن في نهاية ٢٠١٣، وأيضاً عن طريق وفود مختلفة، إضافة الى المكالمات المختلفة مع نائب الرئيس بايدن، بأن يدعموا العراق ميدانياً من خلال ضرب معسكرات «داعش» في الصحراء أو من خلال السماح للعراق بشراء أسلحة مهمة مثل طوافات «أباتشي» المتطورة، لكن من دون فائدة وسط مماطلة (أميركية) واضحة.
نعم، في النتيجة كانت الرسائل الأميركية واضحة ولكل الأطراف في الداخل، (تفيد) بالحاجة إلى عدم السماح للمالكي بالتجديد لولاية ثالثة في منصب رئاسة الوزراء، وفي مقابل ذلك سوف يتم دعم العراق في حربه ضد «داعش».

■ هم ربطوا ذلك أيضاً بإعادة بغداد النظر في طبيعة علاقاتها مع طهران، ومع دمشق. هل صحيح ذلك؟
ليس بذلك الوضوح لمعرفتهم بترابط الوضع بين العراق وسوريا من جهة، وعمق العلاقة المجتمعية والجيرة والجغرافيا مع إيران من جهة أخرى. (لكن) نعم هم كانوا يقولون إنّه ضروري أن لا يدعم العراق نظام الرئيس بشار الأسد، وأنه يجب أن يكون للعراق استقلالية في قراراته تجاه ايران.

نحن أبناء المنطقة،
نقرأ الواقع من عيون
تاريخية لا من عيون جيوسياسية

من الضروري أن نذكر أنّ الضغوط على العراق في هذه الملفات لم تكن مرتبطة مع اتجاهات الإدارة الأميركية فقط، إنما مع الكونغرس بشقيه ومع اللوبيات (جماعات الضغط) العربية، وغيرها، والتي كانت تعمل ضد العراق في واشنطن.
■ كيف تنظر إلى ما يُحكى منذ أشهر بشأن «انفتاحة سياسية خليجية» تقودها السعودية تجاه بغداد؟
أرى أنّ هناك قراراً سعودياً وإماراتياً بالانفتاح على العراق، وهذا مؤشر جيّد ونحتاج إلى أن نبني عليه نحن أبناء هذه المنطقة المتوترة. نعم السعودية خسرت الكثير من خلال السياسات السابقة تجاه العراق، ونحن كذلك خسرنا الكثير في مراحل بناء الدولة العراقية الجديدة. (لكن) لكي يتعاطى العراق إيجاباً مع الانفتاح السعودي، هناك أسئلة مهمة وضروري أن لا نتجاوزها من دون مراجعة ووقفة تأمل.
هذه الأسئلة متعلقة بطبيعة تطلعات السعودية والعراق لعمق هذه العلاقة المرجوة وسعتها، وكذلك مدى قبول أي طرف بواقع الطرف الآخر، أم أنّ هناك مستلزمات وشروطاً مسبقة تحتاج من كلينا إلى أن نطبقها لكي نستطيع أن نطوّر العلاقة لتكون علاقة جيرة وربح متبادلة؟
أيضاً، هناك أسئلة متعلقة بمدى تطابقنا أو تقاطعنا تجاه ملفات ساخنة في المنطقة مثل الملف السوري واليمني والبحريني وتحديات السلفية الجهادية في سياق آفة التطرف الطائفي في المنطقة.
بالمختصر، نحتاج أولاً إلى إيجاد فضاءات صحيّة للحوار، تترافق مع خطوات لبناء الثقة، ومن ثم تشخيص حدود هذه العلاقة وعمقها وكيفية إدامتها.

■ للحديث أكثر عن الواقع الراهن، ألا تعتقد بأنّ رئيس إقليم كردستان مسعود البرزاني، لا يمكنه أخذ قرار حاسم بإجراء الاستفتاء من دون تأييد خارجي له؟
قرار حكومة الإقليم أو بالأحرى القيادات السياسية الكردية، وبالأخص الحزب الديموقراطي الكردستاني (بزعامة السيّد مسعود البرزاني)، تجاه تقرير المصير والانفصال عن العراق لإنشاء دولتهم، ليس بقرار جديد أو حديث العهد أو أنّه قرار مستورد من الخارج.
هذه الأحزاب ترى نفسها كـ«حركات تحرر»، وبالتالي لديها قرار بالبحث عن عَقدٍ جديد مع العراق، هم يسمونه الطلاق الودّي. وبالتالي كانوا يبحثون عن الفرصة المناسبة أو التي تكون فيها خسائرهم أقلّ ما يمكن. وهم يعرفون أنّ الوضع الجيوسياسي لن يسمح لهم بإنشاء دولة، لكن أعتقد بأنّ لديهم اقتناعاً بأنّ المنطقة تمر بمرحلة انتقالية قد تسمح (أو ممكن مع معاناة كبيرة) لهم بإنشاء دولة.
من الضروري أن لا ننسى أنّ الولايات المتحدة أعطت الكثير من الرسائل لدول المنطقة، بأنّها غير مهتمة بالمنطقة وتريد أن تقلل من ارتباطاتها بها. وتزامن هذا مع ضعف كيانات الدول على حساب منظمات إرهابية خارج نطاق الحكومات، كما نرى ذلك مع «داعش» في سوريا والعراق.
أعرف أنّ الجواب كان طويلاً، لكني أرى ذلك ضرورياً لأننا كأبناء منطقة نقرأ الواقع من عيون تاريخية وليس من عيون جيوسياسية، حالية.
نعم، ربما فهم الأكراد عند إعلانهم مشروع الاستفتاء أنّ هناك ضوءاً برتقالياً (وليس أحمر أو أخضر) للمضي بالاستفتاء. لكن تذكّر أنّه في الوقت نفسه، فمع تقدم الزمن نحو تاريخ ٢٥ أيلول ويوم الاستفتاء كنّا نرى ازدياد الرسائل المباشرة وغير المباشرة التي تدعو إلى ضرورة تأجيله.

■ كيف ترى مستقبل العلاقة بين أربيل وبغداد؟
ستمرّ العلاقة بمراحل مختلفة، بعضها سوف تكون متوترة، وأخرى تعرف انفراجات مؤقتة، وذلك إلى حدّ يعرف عنده كلّ طرف الخطوط الحمر الحقيقية والتي يمكن أن يتعايش معها أو يقبل بها. هناك حاجة إلى حوارات كثيرة، وفي أمور كثيرة، وكأننا أجلنا هذه الحوارات منذ زمن ليس بقصير مع تراكم تداعيات «اللاحوار».
ولعلّ غياب الرئيس العراقي الراحل جلال طالباني عن المشهد السياسي (منذ مرضه في 2012)، ساعد على تأجيل التحدّث أو حلّ هذه الإشكالات. بعض هذه الإشكالات متعلقة بتطبيق الدستور أو بعدمه، وهذه الأمور خارج صلاحيات حكومة بغداد ومرتبطة بالأحزاب الحاكمة ومجلس النواب غير المتوائم.
لا أتوقع انفراجات سريعة ما لم ندرك كلنا أنّ الزمن ليس معنا وأنّ المعادلة الربحية، وليس المعادلة الصفرية، هي الصحيحة لحلّ المشكلات الكثيرة العالقة.

■ كثرٌ يعتقدون اليوم بأنّ مجمل الأزمات السياسية التي تواجهها بغداد تعكس أزمة النظام السياسي القائم منذ 2005 برمته. هل توافق؟
نعم أوافق إجمالاً، لكن اسمح لي بأن أفصّل بعض الشيء لكي نفهم المشكلة وماهيتها.
في الحقيقة، لبناء عراق جديد نحتاج إلى أن نعترف بالحاجة إلى التغيير أولاً لأننا اكتشفنا بعد أكثر من عقد من الزمن أننا بعيدون من الوصول إلى الأهداف التي وُضعت بعد ٢٠٠٣، وأننا لسنا على الطريق الصحيح، وأننا نعرف أنّ الوقت بحد ذاته لن يوصلنا إلى أهدافنا المرجوة.
هذا مع العلم بأنّه لا يوجد خلاف جوهري على ما كان يبغي أن تكون روح دستور ٢٠٠٥. فالديموقراطية والتناول السلمي للحكم والابتعاد عن الدكتاتورية والحكم الشمولي وتمثيل التنوّع العراقي في المشهد السياسي والاقتصاد الحر والحريّة الفكرية وتوزيع السلطات وغيرها من خصال الدستور العراقي، تبقى مبغى ومطلب جماهير وإن اختلفنا بشأن كيفية الوصول إلى هذه الأهداف.
وهنا يأتي السؤال عن نوعية التغيير المطلوب: اقتصادي، أم سياسي، أم اجتماعي/ ثقافي؟ وما مستوى التغيير: نظام الحكم، أو دستور، أو تشريعات، أو إجراءات الروتين؟ ومن يقود التغيير: النخبة المثقفة، أم الحكومة، أم الشارع، أم المرجعية الدينية في النجف، أم مؤسسات المجتمع المدني؟ وما هي طبيعة التغيير: ثوري أم إصلاحي؟ وإذ كانت إصلاحية أو ثورية، فهل تركز على الجانب الثقافي أو السياسي أو الاقتصادي أو كلها أو بعضها؟
هذه من أهم الأسئلة التي يُحاول الشارع العراقي أن يجيب عنها. قد لا نطرحها كثيراً بالعلن لأنها قد تتضمن إعلاناً عاماً أو تتضمن اعترافاً ضمنياً عن بعض الفشل أو عن الكثير من الفشل، وبالتالي نخاف أن نسير باتجاه المحاسبة والعقاب واللوم، وبالتالي يكون ضعف التحفيز عن البحث عن إجابات من معالم المرحلة المقبلة وقد لا نريد أن نخوض في هذه المواضيع والسير بهذا المسار لوجود اقتناع عام بأنه لن ينتهي بسرعة أو بسهولة.
ولكي نصل إلى أهدافنا المتفق عليها، لا بد من أن نضع استراتيجية كفيلة ببناء منظومة أمن وطني ومجتمعي عراقي ناجحة على أسس مدروسة وبرنامج قد يحتاج إلى ما بين عقد وثلاثة عقود من الزمن لتنفيذه. وأن يتم التنفيذ على مراحل محددة بحيث تضمن برامجها ومشاريعها بناء الإنسان العراقي أولاً وفقاً لطموحاته وقدراته ورؤاه. هذا البناء لا يمكن أن يتم أو أن يُعطي نتائج إيجابية مضمونة من دون الاستثمار في بنى البلاد التحتية الأساسية والإنسانية.
وينبغي أن نأخذ الجوانب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية بالاعتبار في كل مرحلة من مراحل البناء، مع الاهتمام بآليات المراجعة والتدقيق والإدارة الرشيدة، وبذل الجهود للحصول على قبول الأطراف المعنية (الداخلية والخارجية) من أجل إدامة نجاح المراحل التي يتم إنجازها. بتحقيق الأمن وترسيخه، وببناء الإنسان يتمكن العراق من الخروج من أزماته المستمرة وبناء مجتمعه.






لماذا استقلت من منصبك في 2016؟

لعلّ قرار الاستقالة كان من أصعب القرارات في حياتي المهنية والشخصية. أعلنتُ بعد استقالتي أنّ أهم الأسباب للاستقالة متعلقة بعدم وجود تخطيط استراتيجي واضح للحكومات العراقية المتتالية، وبالتالي ترانا نعملُ في السفارات من غير وضوح في الأهداف التي علينا أن نصل إليها وسبل دعم الوصول إلى هذه الأهداف ــ إن كانت موجودة أصلاً.
تحديات العراق لا تتحمل العمل من منطلق «فلنجرب ونرَ». إنما نحتاج إلى تخطيط واضح مع وجود إدارات وإرادات لتفعيل أي قرار استراتيجي للحكومة.
كإنسان مهني، عملتُ كثيراً قبل تسنمي شرف تمثيل العراق سفيراً في إدارة المشاريع الكبرى، وعرفتُ أنّ المسؤولية بحد ذاتها غير كافية لإنجاز المهمات من دون تهيئة مستلزمات النجاح من خلال دعم الحكومة لمهمات السفارات العراقية في الخارج.