كانت البدايات الفعّالة واللافتة لنشاط العناصر السفلية الجهادية في غزة منطلقة من منصّة مواقع التواصل الاجتماعي، وخاصة من المنشقين عن حركة «حماس»، الذين سارعوا إلى كشف «فساد وأسرار مالية وأمنية» تتعلق بالحركة، ثم تطور الأمر إلى كشف أسماء ضباط وعناصر في أجهزة الأمن ــ في خطوات تتشابه مع فعل العملاء ــ ثم وصل الأمر إلى كشف أسماء المحققين الذين توكل لهم مهمات التعذيب والتحقيق مع العناصر السلفية المعتقلة.
كان ذلك ناقوس خطر كبيرا يُدقّ على رأس الحركة طوال السنوات الماضية، التي تلت الهجوم على مسجد ابن تيمية في رفح، لكن كل الحملات الأمنية لم توقف التفجيرات المتفرقة لهذه المجموعات ضد أهداف منتقاة في غزة، ولم تمنع كذلك إطلاق صواريخ على فلسطين المحتلة.
في مرحلة لاحقة، وصل الاختراق إلى نشر السلفية تفاصيل حواجز التفتيش الليلية التي بدأت «حماس» إقامتها من الثامنة ليلاً إلى الخامسة صباحاً، حتى تفاقم الأمر وتبين وجود اختراق سلفي للجسم العسكري في الحركة، ما دفع الأخيرة إلى حملة قوية ضدهم، وصلت مؤخراً إلى مرحلة كسر عظم، بعدما أغلقت «ولاية سيناء» الأنفاق الخاصة بالمقاومة وهددت كل من ينقل السلاح إلى غزة.
في منتصف الأسبوع الماضي، حدث اشتباك مباشر بين قوة من الأجهزة الأمنية في غزة خلال دهمها منزلاً يختبئ فيه بعض العناصر السلفيين المطلوبين، وأثناء الدهم ألقى أحدهم عبوة صغيرة على القوة واشتبكوا معها بالرصاص، ما أوقع إصابات في صفوف الأمن، كما بُترت يد أحدهم وأصيب نائب مدير جهاز «الأمن الداخلي» في محافظة خانيونس. وعلى عكس الرواية الرسمية التي تحدثت عن إلقاء القبض على الجميع، تبين لاحقاً أن منهم من هرب، لكن المهم في الحدث هو الجاهزية التي أظهرها هؤلاء ونيتهم الاشتباك اذا تطلب الأمر.
الجديد أيضاً أن المنطقة التي حدث فيها الدهم هي منطقة زراعية تقع شرق خانيونس، بين الفخاري وقاع القرين، ولم يسبق وجود عناصر سلفية فيها، وهذا يعني انتقالهم من العمل في المناطق التقليدية ــ السكنية إلى مناطق نائية ومخبوءة، وليس بعيداً أن يتكرر سيناريو ارتداء الأحزمة الناسفة احتساباً لعمليات الدهم والاعتقال.
المشكلة أن القضية تخطت حدود الحديث عن أشخاص أو مجموعات صغيرة، إنما تركت خمس سنوات من «الربيع العربي» أثرها الكبير في غزة، وهناك حالة نمو متصاعدة في صفوف الفكر السلفي، وبات كثيرون يلجأون إلى هذا الاختيار في ضوء الضخ الكبير داخل المساجد، حتى التابعة منها لحركات غير سلفية.
يَذكر أستاذ جامعي يدرس الثقافة الإسلامية أنه متفاجئ من حجم تنامي فكر تنظيم «داعش» في إحدى الجامعات في غزة، مضيفاً أنه بات كل مرة يخسر وقت محاضرته في محاورة الطلاب والرد على عدد منهم، وخاصة الذين تدق هواتفهم بنغمات مرتبطة بالتنظيم. هذا الأستاذ يتحدث عن جامعتين يحاضر فيهما هما الأزهر والأقصى، وهما من الجامعات المعروف أنها منفتحة، فكيف الحال في الجامعة الإسلامية أو جامعة الأمة.
طالب آخر يدرس الشريعة في «الإسلامية» ينقل صورة أكثر سوداوية، قائلاً إن من الطلاب المحسوبين على حركة «حماس» من بات يتبنى بقوة أفكار قريبة من «داعش»، ويقيمون جلسات داخل الجامعة بصورة علنية، لا سرية، كما بات لهم أنشطة ثقافية ويوزعون منشورات داخل حرم الجامعة.
وبينما تعتمد «حماس» أسلوب المعالجة الأمنية مع الكوادر المسلحين، فإنها تغفل كثيراً عن هذا التنامي الذي سوف يزيد في النتيجة أعداد من ستواجههم لاحقاً، فيما أثبتت تجربة «المناصحة» إخفاقاً كبيراً طوال السنوات الماضية. وخلال الأسابيع الأخيرة، أعلن مقتل أكثر من غزاوي في سيناء وسوريا، كما تزداد الأخبار عن هرب بعض الشباب والتحاقهم بالتنظيمات السلفية الجهادية، وخاصة أبناء العائلات البدوية.
إن التعامل الأمني مع هذه العناصر يدفع نحو سيناريو الاصطدام والمواجهة، والخوف أن يتحول ما يتوعد به «مركز ابن تيمية الإعلامي» في غزة إلى واقع يصعب التعامل معه، لذلك فإن ناقوس الخطر يجب أن يدق مجتمعياً لا حركياً فقط، قبل أن يتحول إهمال خطر محدود إلى فوضى حقيقية، كما لا يجوز تقديم المبررات لهؤلاء، عن جهل أو عمد، في إثبات صحة ما يحذرون به من «خطر شيعي» على غزة، هو أبعد ما يكون.