في ليلة الرابع عشر من شهر آب 2014، فعلها رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي، وتنازل عن ترشحه لولاية ثالثة لمنصب رئاسة الوزراء، لمصلحة زميله في «حزب الدعوة» وعضو الائتلاف البرلماني الذي يتزعمه «دولة القانون»، حيدر العبادي.لا شك في أنّ إعلان المالكي سحب ترشحه شكّل مفاجأة، إذ لم يعتقد كثيرون بأنّ من تولى رئاسة الوزراء في عام 2006، ثم لولاية ثانية في 2010، سيُقدِم على خطوة كهذه. لكن الأزمة السياسية التي اندلعت إثر فوز ائتلافه بالعدد الكافي من المقاعد النيابية (في انتخابات نيسان 2014) للترشح للمنصب، والتي ترافقت مع سيطرة «داعش» على مدينة الموصل (في شهر حزيران) وتوسعه الجغرافي الذي لامس محافظة بغداد، قلب كل حسابات ومعادلات «رجل بغداد القوي»، كما كان يوصف.

هو من ناحية كان مرفوضاً من قبل أحزاب «المكوّنين العراقيين، الكردي والسنّي» (وفقاً للمصطلحات التي كرسها دستور الاحتلال الأميركي) لاتهامه بأنه «ديكتاتور»، وكان مرفوضاً أيضاً من قبل أقطاب ضمن بيت «التحالف الوطني» (الشيعي)، أبرزهم مقتدى الصدر، وحتى قيل إنّ المرجعية الدينية نفسها لم تكن راضية عن توليه ولاية ثالثة. ومن ناحية ثانية، كان المالكي مرفوضاً أيضاً من قبل السعودية وقطر وتركيا، في ظل عمل أميركي حثيث لإطاحته نظراً إلى مواقفه الإقليمية التي كانت تميل إلى «محور المقاومة».
التقاطعات الداخلية والخارجية أوصلت إلى عمل أطراف قريبة من رئيس الوزراء السابق لاستبداله، في ما وُصف بالانقلاب عليه. وفي حينه، ظهر فجأة اسم حيدر العبادي كبديل من المالكي ومن مرشح المحور الأميركي، إياد علاوي... فكانت الكلمة الشهيرة التي ألقاها المالكي، ليل 14 آب، من مقر رئاسة الوزراء، وكان إلى جانبه أعضاء «حزب الدعوة» (الذي يتولى أمانته العامة)، ومن بينهم العبادي نفسه.
منذ ذلك التاريخ، يُحكى عن أنّ المالكي الذي أصبح أحد نواب رئيس الجمهورية ولم يبتعد عن الساحة السياسية العراقية، يعمل على استعادة نفوذه وتكريس زعامته. ويرتفع اليوم الحديث الجدي، مع اقتراب الاستحقاق الانتخابي التشريعي.
أولى دلالات «العودة»، قد تتمثل في الانقسام الذي يشهده راهناً «حزب الدعوة» بين رئيس الوزراء السابق والعبادي الذي تحوّل خلال عامين إلى أحد أقطاب الحزب، بعدما كان من قادة الصف الثاني.
يتسلح المالكي بداعمين كبار داخل «الدعوة»، على غرار رئيس المكتب التنظيمي في الحزب الشيخ عامر الكفيشي، وزعيم كتلة الدعوة في مجلس النواب خلف عبد الصمد، ومحافظ بغداد السابق صلاح عبد الرزاق، ورئيس مجلس محافظة بغداد السابق كامل الزيدي، ما يرجّح كفته بشكل كبير، في أي صراع حزبي داخلي.
في المقابل، يحاول العبادي، أن يعوّض تواضع مستوى داعميه داخل «الدعوة»، باستثماره في مشهد انفتاح دول إقليمية كبيرة على مشروعه، تتقدمها تركيا، فضلاً عن تنسيقه الفعّال مع الولايات المتحدة، وكبرى دول الاتحاد الأوروبي. ومن دلالات تلك الاستثمارات أنّ العبادي وضع عدداً من العوائق أمام عمليات «الحشد الشعبي» وأمام التنسيق مع سوريا في العمليات الجارية ضد تنظيم «داعش».
وبينما يُنظر إلى المالكي حالياً بوصفه «رجل إيران الأول في العراق»، والدائر في فلكها السياسي، يتواصل العبادي بهدوء مع شركائه المحتملين في الداخل، ويتلقى المزيد من الانفتاح الإقليمي والدولي على حكومته، في محاولة، على ما يبدو، لتحويله إلى زعيم لمشروع يروّج له تحت شعار «التشيّع العروبي».
وقد أنهى المالكي قبل أيام زيارة وُصفت بـ«الحاسمة» لإيران، شهدت لقاءه كبار زعمائها، في وقت واصل فيه العبادي، بصفته رئيساً للوزراء، استقبال زوار كبار، كرئيس الوزراء الكويتي، ثم الرئيس الفرنسي، فرئيس الوزراء التركي، وأخيراً رئيس الوزراء الأردني، في دلالة واضحة على صعود نجمه ومقبوليته الإقليمية والدولية العالية.
مجمل هذا المشهد يقود إلى واقع أنّ العراق دخل عملياً مرحلة خلط أوراق شاملة تستبق الانتخابات التشريعية المرتقبة، ولا بد أن تقود إلى تغيرات في الخريطة السياسية، بالتوازي مع تبدلات في المعادلات الإقليمية التي تزن كثيراً في الصراع على من يتولى كرسي بغداد. ولعلّ أبرز تلك التغيرات العراقية، تتمثّل في إطلاق نوري المالكي مشروع استعادة نفوذه السياسي بصفته زعيماً أول لـ«البيت الشيعي» في العراق... ومحدداً لهوية رئيس الوزراء المقبل.