القاهرة | في عام 2000، أصدر الرئيس الأسبق حسني مبارك قراراً بإنشاء مدينة «القاهرة الجديدة»، على مساحة 70 ألف فدان، والتي تعتبر من «الجيل الثالث» للمدن التي بدأت مصر في بنائها منذ نهاية السبعينيات مثل مدن 6 أكتوبر والشيخ زايد وغيرها.
وطوال هذه السنوات أصبحت هذه المدن الواجهة الأولى للاستثمار العقاري والتجاري، بعدما تكدّست مناطق القاهرة، وباتت تصنف كواحدة من أعلى مدن العالم ازدحاماً.
واكتسبت مدينة القاهرة الجديدة تحديداً أهمية خاصة بين نظيراتها إثر بدء الحكومة المصرية في إنشاء مشروع «العاصمة الإدارية الجديدة» في داخلها لتصبح مقرّاً لكل المصالح والجهات الحكومية. لكن قبل قرار حكومة عبد الفتاح السيسي إنشاء تلك العاصمة الإدارية، كانت القاهرة الجديدة قد أصبحت فعلاً، واجهة أغلب الوزراء والمسؤولين الحكوميين والسياسيين للسكن بعيداً عن زحام القاهرة.
وتقع المدينة في القوس الشرقي للقاهرة (شرقي الطريق الدائري في المسافة المحصورة بين طريق القاهرة والسويس الصحراوي وطريق القاهرة) العين السخنة. وتعتبر من أقرب المدن إلى القاهرة وامتداداً طبيعياً لمنطقتي مدينة نصر ومصر الجديدة، وتضم بداخلها مدناً عدة، أقدمها مدينة «الرحاب»، وأبرزها منطقة «التجمع الخامس»، إضافة إلى عدد من المدن الأخرى مثل «الشروق» و«مدينتي» وغيرها.
وتعتبر منطقة «التجمع الخامس» أبرز مناطق مدينة القاهرة الجديدة وأشهرها، وأكثرها رفاهية. وبرغم ذلك، تتمايز بداخلها الأحياء السكنية، ما بين الأحياء الراقية وتضم تجمعات الدبلوماسيين والسياسيين التي جذبت أبرز السياسيين والمشاهير للسكن فيها، مثل الرئيس السابق محمد مرسي، والفريق أحمد شفيق المرشح الرئاسي السابق، ورئيس جهاز المخابرات في فترة مبارك، اللواء عمر سليمان، وكبار قادة الجيش مثل المشير محمد حسين طنطاوي، ورئيس أركان الجيش الأسبق، سامي عنان، إضافة إلى ذلك بعض السياسيين مثل الأمين الأسبق لجامعة الدول العربية، عمرو موسى.
وتضم المنطقة أحياء للإسكان الاجتماعي أنشأتها الحكومة للشباب، وتبيعها بنظام التمويل العقاري (يتم دفع مقدم حجز للوحدة السكنية، وتقسيط باقي ثمنها على فترات تصل إلى 20 عاما)ً، لكنها تبقى بعيدة عن مناطق السكن «الراقية» والتي تبدأ أسعارها من نصف مليون جنيه (أي ما يقرب من 26 ألف دولار)، وتسوق لها الإعلانات في الأساس وتبيعها تحت شعار «العزلة عن الزحام والإزعاج الذي يسببه الجيران من الطبقات الاجتماعية الأخرى».

باتت المدن الجديدة
تعاني من العزلة وقلة السكان قياساً لما خُطِّط له

وذكرت ورقة بحثية لهيئة المجتمعات العمرانية الجديدة بعنوان «المدن الجديدة في مصر... أسباب نشأتها وأنواعها وأجيالها»، أن المدن الجديدة في مصر بأنواعها المختلفة أُنشأت لـ«تخفيف الضغط السكاني على المدن القائمة، وإعادة رسم الخريطة السكانية والعمرانية في مصر». لكن الملاحظ أنها باتت تعاني من العزلة وقلة السكان قياساً لما خطط له.
وتعدّ مدينة القاهرة الجديدة (وفقاً للورقة البحثية نفسها) من «المدن التابعة»، بمعنى أنها نتيجة قربها من القاهرة أصبحت تعتمد عليها، ما جعلها تمثل عبئاً وإضافة عمرانية إلى المدينة. ونتيجة لذلك لم تخفف من عبء الضغط على العاصمة لعدم وجود شبكات ربط ومواصلات، ما يستلزم إمكانات مرتفعة للأسر وضرورة توفير سيارة لحائزي الشقق، ما قلّل من الإقبال عليها لتعاظم فكرة العزل.
وفي هذا السياق، قالت أستاذة التخطيط العمراني في جامعة القاهرة، سهير حواس، إن تجربة المدن الجديدة بشكل عام تحتاج إلى الاكتمال، «فأغلب هذه المدن توفر المناطق السكنية فقط ولا توفر فرصاً للعمل أو الاستثمار بالقدر نفسه». وتتابع في حديث إلى «الأخبار» أن هذه المدن لا تحقق الهجرة الكاملة لقاطنيها (خاصة للذين يسكنون فيها فيما يعملون في محافظة القاهرة أو الجيزة)، ما يزيد الضغط على شبكة المواصلات، ولا يخلخل الزحام في القاهرة.
إضافة إلى ذلك، تقول حواس إن «أغلب هذه المدن لم يتم ربطها بالعاصمة بشبكة مواصلات سريعة وجيدة، مثل القطارات أو المترو، وهي تعتمد فقط على الطرق التي يخنقها الزحام، كما لا يوجد شبكة مواصلات تربط هذه المدن ببعضها من الداخل»، مستدركة أنه «برغم ذلك، تبقى جودة الحياة أفضل في المدن الجديدة من حيث نسبة التلوث والزحام».
أي مستقبل؟
في منتصف السبعينيات، أصدر الرئيس أنور السادات قراراً بإنشاء «مدينة السادات» على طريق القاهرة ــ الإسكندرية الصحراوي. كان الهدف من إنشاء المدينة، نقل الأجهزة الإدارية للدولة لتخفيف الزحام عن القاهرة، لكن ضاعت الفكرة باغتيال السادات، وأصبحت المدينة الآن مدينة سكنية نائية يعمل سكانها في بعض الأنشطة الزراعية والصناعية. فهل يُصبح هذا مصير مدن القاهرة الجديدة، وتحديداً مشروع العاصمة الإدارية الجديدة ومنطقة التجمع الخامس؟ هذا السؤال يطرحه أستاذ العمارة في جامعة الإسكندرية، أحمد منير سليمان.
ويقول سليمان لـ«الأخبار»، إنه بنظرة سريعة لتجربة المدن الجديدة في مدن أوروبية، نرى أن جميع المدن «الجدية» تم ربطها بخط سكة حديد أو بخط مترو، بينما في مصر، لم يتم ربط المدن الجديدة بـ«المدن الأم» بأي وسيلة مواصلات عامة، وإنما تم الاعتماد على وسائل النقل الخاصة أو وسائل النقل غير الرسمية، ما أدى إلى تباطؤ نمو تلك المدن، وبعضها أصبح من «مدن الرفاهية» لأنها ضمت الطبقات ذات المستوى المرتفع فقط والتي تمتلك القدرة على شراء سيارة. ويضيف سليمان أنه حتى الآن، لم نقف على التنمية المتكاملة لأي مدينة جديدة، ما عدا مدينة 6 أكتوبر لقربها من العاصمة واعتبارها ضاحية للقاهرة الكبرى.
أما بخصوص مدن القاهرة الجديدة والعاصمة الإدارية، فيعتبر سليمان أنه «لم يتم تحديد الهدف من إنشائها»، ويتساءل: «هل هي عاصمة سياسية جديدة مثل مدينة كامبرا في أستراليا، أم هي عاصمة لاحتواء الأجهزة الإدارية الواقعة في نطاق مدينة القاهرة؟». ويواصل بالتساؤل عما إذا كان إنشاء المدن الجديدة يعتمد على الأشخاص والقيادة السياسية أو يتم من خلال رؤية تنموية شاملة لخدمة الأجيال الحالية والمستقبلية؟ وفي سياق الحديث، يشير الباحث الأكاديمي المصري إلى ضرورة ربط الرؤية التنموية مع التنمية الاقتصادية لمحاولة جذب السكان من وادي النيل الضيق والقديم الذي أصبح مزدحماً للغاية.
لا تتوقف الأسئلة عند هذا الحد، بل تتعداها إلى السؤال عن هوية القاطنين في المدينة، ولماذا لم يتم إنشاؤها في الجوار المجتمعي للوصول إلى أفضل الحلول لاستغلال الأراضي الصحراوية الواقعة في شرق القاهرة الكبرى. هل ستصبح في المستقبل مدن أشباح خالية من الطبقة العاملة وخالية من مقومات اقتصادية لجذب رؤوس أموال؟ أم مدناً لاحتواء مجتمعات مغلقة لطبقة معينة؟