قرابة أربعة أشهر فصلت بين حدثين بارزين في العلاقات بين فرنسا وإقليم كردستان في العراق: استقبال رئيس الإقليم، مسعود البرزاني، من قبل الرئيس الفرنسي، فرنسوا هولاند، في قصر الإليزيه، في 8 أيلول الماضي، وصعود سيروان البرازاني على البساط الأحمر في "مهرجان كان" السينمائي، إلى جانب برنار هنري ليفي، في ٢١ أيار، احتفاء بفيلم هذا الأخير الممجّد لقوات "البشمركة".وبرغم أن هذين الحدثين انصبا كلاهما على الترويج لضرورة أن تضطلع القوات الكردية بدور بارز في الحرب ضد "داعش"، فإنّ مقاربة الرئيس الفرنسي لهذا الدور الكردي بدت مغايرة وأقل راديكالية ــ في الظاهر على الأقل ــ من موقف برنار هنري ليفي.
الفيلسوف الفرنسي (المتصهين) ذهب إلى "كان" برفقة البرزاني الابن، للترويج بأن "البشمركة مقاتلون من أجل الحرية"، وفق النمط العلماني الغربي. ما يجعلهم، في منظوره، القوة الوحيدة الجديرة بأن يدعمها "التحالف الدولي" في مواجهة "داعش". ولم يخفِ ليفي أن هذا الدور الكردي في مواجهة التطرف الجهادي يجب أن تقابله "لفتة عرفان" من قبل المجتمع الدولي بدعم إقامة موطن كردي مستقل.
أما الرئيس هولاند، فقد اندرجت مقاربته لأهمية الدور الكردي في معركة الموصل، وفي الحرب ضد "داعش" عموماً، في سياق استلهام الدروس من "السابقة الليبية": ترتيب إجراءات "اليوم التالي" تفادياً لانزلاق الأمور بعد دحر التنظيم المتطرف، نحو الفوضى والاقتتال على خلفيات مذهبية أو طائفية.
من هذا المنطلق، حرص الرئيس الفرنسي على إقناع رئيس اقليم كردستان بضرورة قبول أن تدور معركة الموصل تحت قيادة الجيش العراقي. وكان لافتاً أنّ مسعود البرزاني أعلن في أعقاب لقاء الاليزيه، في 8 أيلول، قبوله، للمرة الأولى، دخول القوات الحكومية العراقية إلى إقليم كردستان، في سياق الإعداد لمعركة الموصل، مشترطاً ذلك فقط بتسوية الخلافات النفطية والسياسية القائمة بين سلطة الحكم الذاتي في كردستان والحكومة المركزية في بغداد. وقد نجحت الوساطة الفرنسية، بين البرزاني ورئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي، في تذليل تلك الإشكاليات، بالرغم من أنّ البعض منها تُرك معلقا إلى ما بعد تحرير الموصل، وخاصة في ما يتعلق بالخلاف حول المناطق التي لم تكن مصنفة ضمن إقليم كردستان، قبل استيلاء "داعش" على الموصل، التي بسطت القوات الكردية نفوذها عليها منذ صيف 2014.
تلك الترتيبات التي صُرح بها على العلن، خلال لقاء البرزاني ــ هولاند في الإليزيه، مثّلت الخطوط الأساسية للتسوية، لكنها لم تكن "كل التسوية" (وخاصة أنّ الأميركيين فرضوا قواعد على مجمل الأطراف). فقد لمّحت مصادر متعددة، فرنسية وكردية، إلى أن الرئيس الفرنسي منح رئيس إقليم كردستان "ضمانات أخرى" غير معلنة. ما يفسر الخطوة المفاجئة والتاريخية التي أقدم عليها هذا الأخير بقبول دخول القوات العراقية إلى إقليم كردستان، للمرة الأولى منذ قيام سلطة الحكم الذاتي الكردية.
وكان دافع الوساطة الفرنسية بين سلطات كردستان والحكومة المركزية وضع "البشمركة" خلال معركة الموصل تحت قيادة الجيش العراقي، والدفع نحو دور عسكري كردي بارز في مواجهة "داعش"، وذلك من أجل الحد من مشاركة وتأثير "الميليشيات المذهبية"، خشية حصول "مواجهة طائفية لاحقا بعد تحرير المدينة". أما بالنسبة للجانب الكردي، فإنّ اضطلاع "البشمركة" بمثل هذا الدور الكردي يندرج ضمن إستراتيجية خاصة تسعى، كما قال البرزاني في أعقاب لقاء الاليزيه، الى "تحقيق مكاسب سياسية تخدم مستقبل كردستان". لم يفصح رئيس إقليم كردستان، في حينه، عن أي تفاصيل بخصوص "المكاسب المستقبلية" التي تتطلع إليها سلطة الحكم الذاتي الكردي، لكن مصادر إعلامية عدة نقلت على لسان بعض مرافقيه أنّ البرزاني طالب الرئيس الفرنسي بتأييد مشروع الاستفتاء الذي يعتزم تنظيمه في الإقليم، في وقت لاحق، بعد معركة الموصل، للاستقلال بالكامل عن العراق.
ووفق المصادر نفسها، فإن الرئيس الفرنسي منح ضمانات غير معلنة للبرزاني بأن "فرنسا ستدعم أي نتيجة سيؤدّي إليها ذلك الاستفتاء، بشرط أن تحظى بتأييد غالبية سكان الإقليم". ما يعني أن الرئيس الفرنسي لا يريد المجاهرة سلفا، على غرار برنار هنري ليفي، بتأييد إقامة موطن مستقل للأكراد، لكنه لا يعارض فكرة اجراء استفتاء حول استقلال كردستان تقتصر المشاركة فيه على سكان الإقليم وحدهم، دوناً عن بقية العراقيين.
والرئيس الفرنسي، إذ يعدُ البرزاني باعتراف فرنسا بـ"أي نتيجة" سيؤدي إليها مثل هذا الاستفتاء، يستجيب مسبقاً (على نحو غير معلن)، للمطلب الذي طرحه برنار هنري ليفي بخصوص تقديم "لفتة عرفان" دولية تجاه "مقاتلي الحرية" الأكراد، نظير مشاركتهم في الحرب ضد "داعش".