تحذيرات الخبراء من التسرع في تنفيذ تفريعة قناة السويس لم يأخذها الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، على محمل الجد، بل اندفع «الجنرال» آنذاك لحرق ما لدى مصر من عملة صعبة كي يدفع للشركات العالمية، واليوم صار يتكئ في حديثه عن عائدات التفريعة على الجنيه المصري للتعبير عن ثبات إيرادات القناة، من دون أن يقر بأن خطوته أقحمت البلاد في أزمة حادة، اضطرتها إلى الاقتراض.وبينما يمكن تحميل الحكومة مسؤولية عشرات المشكلات، يتحمل السيسي مباشرة المسؤولية عن طريقة ونتائج التفريعة التي طلب تسريع إنجازها خلال عام واحد، فيما جمع خلال تسعة أيام نحو 64 مليار جنيه في استكتاب كبير، وعد فيه المصريين بفائدة 12% سنوياً تصرف على دفعات كل ثلاثة أشهر.
والمشكلة ليست في قدر الفائدة فحسب، بل في انخفاض القيمة الشرائية للجنيه، لأنه خلال الاكتتاب كان سعر الجنيه في السوق الموازية مقابل الدولار الأميركي أقل من ثمانية جنيهات، فيما يتجاوز الآن حاجز 12.5، ما يعني أن من أودع أمواله خسر من قيمتها السوقية في أقل من عامين نحو 45% مقارنة بفائدة 24%. الأمر نفسه يمكن تطبيقه على السعر الرسمي، وخاصة أن البنك المركزي خفض قيمة الجنيه بنحو 12% قبل أشهر، ويستعد لتخفيض جديد قريباً.
ولم يكن خافياً أن نظام السيسي تمكن من تحويل التفريعة إلى المشروع القومي الأول خلال افتتاحها، وذلك لتجاوز عقبة مهمة مرتبطة بالشعبية التي باتت الآن مهتزة بعدما طرحت البنوك شهادات استثمار بأجل أقل من المطروح لقناة السويس وبفائدة أعلى، وذلك في محاولة لجذب المدخرات المصرية بالجنيه.
خسر المساهمون
مرة بإعلان الأرباح بالجنيه وثانية بانخفاض سعر الصرف

وكلما سئل خبير اقتصادي، لا يمكن إيجاد سبب واحد للتسريع في إنجاز التفريعة سوى رغبة «الجنرال» في تنفيذ مشروع يحمل اسمه بسرعة. وصحيح أن التفريعة استنزفت نصف الأموال فقط، لكن النصف الآخر من المقرر صرفه على مشروعات الأنفاق العملاقة هناك. رغم ذلك، النتيجة واحدة: ضخ مبالغ كبيرة من العملة الصعبة للشركات الأجنبية في وقت قصير أرهق الاقتصاد، وخاصة مع تراجع عائدات القناة نتيجة تباطؤ حركة التجارة العالمية المتوقع.
أما «هيئة قناة السويس»، فاضطرت للمرة الأولى منذ سنوات إلى الإعلان عن الأرباح بالجنيه بدلاً من الدولار في محاولة للحفاظ على صورتها كجهة تحقق المزيد من الأرباح المنخفضة في الحقيقة عن نظيرتها في العام السابق.
والمفارقة أن قناة السويس التي خفضت رسومها بنسبة 30% للحاويات الآتية من ميناء نيويورك وجنوب أميركا بنسبة 30%، هي نفسها التي أعلنت رسمياً طلبها قرضاً بقيمة 600 مليون يورو لتسديد التزامات مستحقة عليها، علماً بأنها من المفترض أن تكون المصدر الرئيسي للعملة الصعبة في الوقت الحالي بعد توقف عائدات السياحة، بل اضطرت إلى الاقتراض من عدة بنوك ما قدره 1.4 مليار دولار لتسديد بعض التزامات الشركات الأجنبية المنفذة للمشروع.
إذاً، وبعد عام، لا تبدو التفريعة سوى مشروع «مجنون» يعجز عن تغطية تكلفة إنشائه، ومكسبه الوحيد هو استعادة الثقة في قدرة الدولة على إنجاز المشروع الذي ترغب فيه بالوقت الذي تحدده مهما كانت الصعوبات، لكن ما تسبب فيه هو العبء الاقتصادي الذي أدخل، وسيدخل، البلاد في دوامة قرض صندوق النقد الدولي.
وبما أن هذا القرض يعتمد بالتسديد على عائدات غير ثابتة، فإن البلاد غير محمية من شبح الإفلاس بعد سنوات قليلة، وخاصة أن نظام الجنرال لم يتخذ خطوات جادة في جذب الاستثمارات الأجنبية، بل لم يتم الانتهاء من التعديلات القانونية التي يفترض أن تقضي على الروتين الحكومي الطارد لتلك الاستثمارات.
الجانب الإيجابي الوحيد في التفريعة أنها أكسبت السفن اختصار 12 ساعة انتظار قد يكون عامل جذب لاحقاً، لكنها أفقدت مصر نحو أربعة مليارات دولار من الاحتياطي النقدي. ففي تلك الأيام، استقدمت الشركات الأجنبية المنفذة الحفارات العملاقة الخاصة بها، كما يدفع لها عن توسيعات الأنفاق بالدولار، في بلد لم يعد قادراً على توفير العملة الصعبة للمسافرين، وهو ما يطرح عدداً من التساؤلات عن جدوى سرعة تنفيذ الأنفاق خلال ثلاث سنوات، في وقت يمكن فيه تنفيذها على مدى زمني أبعد نسبياً ومن دون تحمل أعباء دولارية جديدة.
والآن تمر قناة السويس بأزمة ربما لم تشهدها منذ عقود، وخاصة مع انخفاض أسعار النفط الذي جعل بعض السفن لا تبالي بطول الطريق، فغيرت مسارها لتسلك طريق رأس الرجاء الصالح توفيراً لرسوم العبور. ويلمح اقتصاديون إلى أن القناة في موقف صعب قد يدفع إدارتها إلى تخفيض رسوم العبور مجدداً وقريباً، وهو ما سيؤثر سلباً في الإيرادات المنخفضة بالأساس. أما الأمل الوحيد المتبقي للسيسي في هذا المشروع، فهو «محور تنمية القناة» القائم على جذب استثمارات لتنفيذ مصانع ومشروعات على جانبي القناة.