خيّب أهل الحكم في المملكة السعودية آمال من راهنوا على نوبة "العقل" الطارئة لجهة الحؤول دون تنفيذ حماقة أخرى فادحة بإعدام رمز الحراك الشعبي في المنطقة الشيخ نمر النمر.
في الحديث عن التوقيت، يطرح سؤال: ما الذي يدفع نظام سلمان لارتكاب هذه الجريمة في هذا الوقت، بالرغم من أن لا شيء استثنائياً حصل في مناطق المواطنين الشيعة يدعو الى هذا الفعل الردعي زعماً؟
يميل المراقبون في الخارج إلى وضع إعدام الشيخ النمر في سياق الصراع الاقليمي، أو بالأحرى صراع المحاور وفصله الأخير المتمثل في تصفية الرموز (زهران علوش، أبو عمر الشيشاني، قادة في تنظيمات أحرام الشام، وجيش الإسلام، والنصرة وداعش)، ويضيف البعض الى ذلك خسارة السعودية في اليمن وسوريا ورجحان كفّة المحوّر الآخر الذي تقوده إيران.
من الصعوبة بمكان المبالغة في التعويل على مقاربة كهذه، وإن بدت في الظاهر مريحة لوقوع حوادثها في فترة زمنية متقاربة. لا ريب أن لمجمل التطوّرات الإقليمية واختلال ميزان القوى لمصلحة هذا المحور أو ذاك دوراً ما في عملية صنع القرار السياسي في السعودية، ولكن من الضروري عدم إغفال عوامل أخرى ذات أهمية كبرى.
بالنظر الى العوامل البنيوية، فإن السعودية تشهد تحوّلاً غير مسبوق يلامس جذور وجودها. بكلمة أخرى، إن التهديد الذي تواجهه السعودية يطاول مجمل الضمانات التي وفّرت استقراراً وتماسكاً لدولة لم تكتمل شروط وحدتها حتى اليوم، أي الانتقال إلى دولة وطنية مكتملة النمو. من بين تلك الضمانات، السياسات الريعية التي اتبعتها السعودية على مدى نحو نصف قرن. تتحدّث الدراسات الاكاديمية عن اللعبة الذكية التي مارستها السعودية في علاقتها مع الشعب، تلك اللعبة القائمة على ثنائية: العصا والجزرة. تقليدياً، كان يلجأ النظام السعودي الى العصا لردع الحركات الاحتجاجية في وقت يغدق فيه المال (الجزرة) من أجل تحقيق التوازن بين الاستبداد والرفاهية، ولكن التهديدات المستهدفة لوجوده، وتآكل موارده، جعلته يميل الى استخدام العصا لتأمين مستقبله. باختصار، النظام السعودي يواجه قنبلة موقوتة وعليه التصرّف بصورة عاجلة في سبيل احتواء التهديدات السياسية والاقتصادية الكامنة.
إعدام الشيخ النمر لم يسدل الستار على قضيته ولا على قضية شعب يرزح تحت حكم الصبية

في النتائج، بقيت لعبة العصا والجزرة سارية المفعول على مدى عقود، وحقّقت نجاحاً الى حد كبير في إبقاء النظام على قيد الاستقرار. السؤال ما الذي تبدّل؟
في الأيام الأخيرة من العام المنصرم وبداية العام الجديد، بتنا أمام مشهد غير مسبوق. لأول مرة يجتمع القمع السياسي والحرمان الاقتصادي في وقت واحد. في تفاصيل ذلك، غاية ما أثبته سلمان منذ توليه العرش في 23 كانون الثاني 2015 أنه فاشل ودموي. بعد مرور نحو عام على إمساكه بزمام السلطة وتشكيل نظام سياسي يقوم على لجنتين: لجنة الشؤون السياسية والامنية برئاسة محمد بن نايف، ولجنة الشؤون الاقتصادية والتنمية برئاسة محمد بن سلمان، يثبت النظام السعودي بأنه فاشل. في غضون اسبوع تكشّف الفشل على المستوى الاقتصادي بعد اعلان الموازنة العام لسنة 2016 بعجز قياسي بلغ 87 مليار دولار، وتالياً سياسة ضريبية باهظة من شأنها الحاق ضرر فادح بالأوضاع المعيشية بالمواطنين، ويثبت بأنه دموي على المستوى الأمني بعد الاعلان عن أولى وجبات الاعدام ضد عدد من المواطنين بانتظار وجبات أخرى. وقد سجّلت السعودية أعلى نسبة اعدامات على مستوى العالم بواقع 154 حالة خلال عام 2015. لم يشأ أن يجعل الوجبة الأخيرة من حصّة العام الماضي تفادياً لفضيحة مزلزلة، فكانت على رأس السنة الجديدة.
وعلى الضد من تفسير البعض لتنفيذ حكم الإعدام في الشهيد الشيخ النمر بأنه علامة قوة، فإن قراءة في مجمل العوامل المؤثرة في قوة وضعف النظام السعودي، الاقتصادية والسياسية والامنية بما في ذلك تحالفاته الاقليمية والدولية، توصل الى حقيقة أن تلك العملية تعكس ازمة النظام، وان غاية ما تفشيه جولات الاعدامات المتعاقبة أن مشروعية النظام تتآكل على نحو سريع نتيجة فشله الاقتصادي والسياسي والامني، وأصبح يتصرف بوحي "قلق المصير".
رهان "تكسير" المعارضين للنظام السعودي سواء عبر اعتقال الرموز والعناصر الفاعلة في مجال حقوق الانسان والإصلاحيين وصولاً إلى اختراق فضاء التواصل الاجتماعي عبر تجنيد آلاف العناصر (يقدّر عددهم بنحو 80 ألف عنصر) من أجل السيطرة على اتجاهات الرأي العام قد يحقق نجاحاً على المدى القصير، ولكنه لا يوفّر ضماناً من أي نوع لاستقرار النظام. وبإمكان الأخير والمراقبين معاً مراجعة مجمل التدابير الامنية السعودية على مدى ثلاثة عقود، إلى أين انتهت، وهل النظام بالقوة التي كان عليها قبل ذلك؟
على مدى السنوات الثلاث الماضية، سعى النظام السعودي لاستعادة هيبته ومكانته كدولة إقليمية كبرى. وفي الداخل، كان النظام يسعى الى المحافظة على قاعدته الشعبية متماسكة، وبصورة رئيسية في المنطقة الوسطى، عقب الانفجارات الشعبية في الشرق الأوسط. في النتائج، بات الارباك سيد الأداء السياسي السعودي، كما تعكسه التحالفات الكرتونية التي يعلنها منذ العدوان على اليمن.
إعدام الشيخ النمر لم يسدل الستار على قضيته، ولا على قضية شعب يرزح تحت حكم الصبية، بل في الواقع يؤكد رسوخ خيار الحراك الشعبي لوقف مسلسل الانهيار في أوضاع المواطنين الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والامنية.
باعدام الشيخ النمر، فإن فصلاً جديداً قد فتح في المنطقة عموماً، لما يمثّله الشهيد النمر من رمزية سياسية ودينية تحظى باحترام القوى السياسية والحقوقية نتيجة مناصرته لقضايا الحريات السياسية والدينية في دول الخليج عموماً. وبرغم أنه من المبكر الحديث عن ردود الفعل المتوقّعة على اعدامه، فإن المنطقة قدّ تشهد أوقاتاً صعبة في المرحلة المقبلة. قرار آل سعود بدفن جثمان الشهيد النمر وإخفاء قبره ورفض تسليمه لذويه ومجتمعه هو دليل على تلك الرمزية التي يخشاها جلاوزة الجزيرة العربية.
في الأخير، فإن الشهيد النمر كان رمزاً في المكان ـ الجزيرة العربية وأصبح رمزاً في كل الأمكنة، إذ تحوّل أيقونة دولية، وكان رمزاً في الزمان ـ الحراك الشعبي في القطيف وبإعدامه أصبح رمزاً لكل الأزمنة ودخل التاريخ من أوسع أبوابه بينما العار كان من نصيب آل سعود.