لا يزال خبير المحاسبة مُبعداً عن المشاركة في مكافحة تبييض الأموال، فيما هو أكثر المطّلعين على عمليات الزبائن وحجم أعمالهم المنطقي وبهويتهم...ليس واضحاً بعد لماذا حُصر موضوع مكافحة تبييض الأموال بالمصارف التي ستفيد هيئة مكافحة تبييض الأموال في مصرف لبنان عن عمليات زبائنها، علماً بأن النشاطات التي يمكن أن تتضمن تبييض أموال غير محصورة بالمصارف، ومنتشرة في الاقتصاد، ويمكن لخبير المحاسبة التدقيق في هذا الأمر، فبإمكانه الإفادة عن عمليات كهذه قد تحصل في شركات مالية (وساطة مالية، تجارة السلع ذات القيمة المضافة...)، أي الشركات غير المصرفية التي لا تخضع لرقابة مباشرة من هيئة مكافحة التبييض في مصرف لبنان.فالقانون الرقم 318 الخاص بمكافحة تبييض الأموال لم يسمّ خبير المحاسبة كجهة قادرة على القيام بهذه المهمة، علماً بأن ثمة مخاطر ناتجة من عمليات التبييض المحتملة لها تأثيرات مباشرة على صدقية خبير المحاسبة وسلوكه. وقد استطاعت نقابة المحاسبين المجازين في لبنان أن تفرض «الشك» فقط من جانب الخبير، عندما تتكوّن لديه بعض الشكوك التي يمكن تفسيرها بأن العميل يقوم بجريمة تبييض الأموال. وبالنسبة للخبير، لا يمكن له اتهام العميل بل رفض مهمة المراجعة فقط.
لماذا يجب أن يكون هناك دور لخبير المحاسبة في عملية مكافحة تبييض الأموال؟ الإجابة عن هذا السؤال تقود إلى ملاحظة أساسية، مفادها أن الخبير على دراية موضوعية بالأنشطة الاقتصادية وبمدلولها، ويقوم بتحضير مستلزمات المكافحة.
ماذا يمكن لخبير المحاسبة أن يفعل في الحالة الراهنة، أي في حالة عدم شموله بهيئة التحقيق الخاصة بمكافحة تبييض الأموال في مصرف لبنان؟ نرى أن على النقابة الطلب من خبراء المحاسبة توخّي الحذر عند مراجعة الشركات، والتأكد من المداخيل المالية وتناسب الواردات مع طبيعة النشاط، علماً بأن الخبير يعلم هوية صاحب الحق الاقتصادي الفعلي في المؤسسة بشكل كامل، ولذلك يجب التنبّه عند مراجعة حسابات الشركات التي يرتكز نشاطها على:
ـــ ملاهي القمار (بما في ذلك عندما يشترك العملاء في معاملات مالية تساوي أو تزيد عن 3 آلاف دولار أميركي/يورو).
ـــ سماسرة العقارات، وتجار المعادن النفيسة والأحجار الكريمة في أي معاملات نقدية، تساوي أو تزيد على 15 ألف دولار أميركي/يورو.
ـــ الجمعيات الخيرية.
ـــ الشركات التي يكون مساهموها، أو مدراؤها، أو أصحاب الحق الاقتصادي، أشخاصاً معرّضين سياسياً.
وفي ظل هذه التحذيرات، يمكن لخبير المحاسبة تجنّب القيام ببعض الأعمال لمصلحة العملاء، وهي كالآتي: بيع العقارات وشراؤها، إدارة أموال العملاء أو أوراقهم المالية أو أصول أخرى، إدارة الحسابات المصرفية أو حسابات الادخار أو حسابات الأوراق المالية، تنظيم المساهمات الخاصة بإنشاء شركات أو تشغيلها أو إدارتها، إنشاء أو تشغيل أو إدارة أشخاص اعتبارية أو ترتيبات قانونية، وبيع وشراء كيانات تجارية.
يشار إلى وجود مجموعة من الأنشطة التي قد ترتبط بمكافحة تبييض الأموال، ولكن يحذّر على خبير المحاسبة ممارستها، وهي تأتي من ضمن أدبيات المهنة وهي كالآتي: العمل كوكيل للأشخاص الاعتبارية في تكوين الشركات، العمل (أو القيام بالإعداد لشخص آخر للعمل) كمدير أو سكرتير لإحدى الشركات أو كشريك في شركة تضامن أو منصب مماثل له علاقة بالأشخاص الاعتبارية الأخرى، تهيئة مكتب مسجل أو عنوان عمل أو مقر إقامة أو عنوان للمراسلات أو عنوان إداري لشركة أو شركة تضامن أو شخص اعتباري آخر أو ترتيب قانوني آخر، العمل (أو القيام بالإعداد لشخص آخر للعمل) كوصي لصندوق ائتماني صريح، العمل (أو القيام بالإعداد لشخص آخر للعمل) كمساهم معين لمصلحة شخص آخر.
يتعين على الخبير، تبعاً للمعايير المهنية، اتخاذ الإجراءات وإعطاء العناية المهنية اللازمة من ناحية تكثيف درجة المخاطر، وطلب مراجعتها بنسب ثقة قد تصل إلى 99 في المئة، بالنسبة للعملية الآتية: لعملاء غير مقيمين، لعمليات مصرفية خاصة، للأشخاص أو للترتيبات خاصة، للشركات التي لها أسهم لحامله، العمليات المالية عند مراجعة ملاهي قمار بالإنترنت التي تتخطى 3 آلاف دولار أميركي، إجراءات شراء فيشات الكازينو ومن يقوم بالضبط الداخلي، وسجلات العدلية، وأخلاقيات الأشخاص المخوّلين فتح حسابات جديدة، أو تحويل الأموال، إجراء معاملات عارضة تتخطى 15 ألف دولار أميركي، إجراء معاملات عارضة في صورة تحويلات، طبيعة إيراد لا تتناسب مع طبيعة النشاط، وجود شك بشأن دقة البيانات المستحصل عليها بشأن تحديد هوية العملاء والمساهمين والمدراء والقيمين على إدارة الشركة، ومراجعة المستندات التي تثبت هوية هؤلاء، ومعرفة صاحب الحق الاقتصادي الفعلي للمؤسسة. ويمكن، بالإضافة إلى موضوع المعرفة المالية والأخلاقية والأدبية للعميل، الذي يتخطى في ملف خبير المحاسبة المعلومات التي تفرضها المصارف على زبائنها للتصريح عن أموالهم، من أجل التدقيق في العمليات المحتملة لتبييض الأموال، فإن بإمكان خبير المحاسبة إثبات معلوماته ميدانياً على الأرض، بالإضافة إلى الاطلاع على المستندات الشخصية والثبوتية، والعناوين والمراجع المصرفية المحلية والإقليميّة والدوليّة، وطبيعة النشاط الاقتصادي الذي تقوم به الشركة، ومقارنتها بالنشاط نفسه الذي يقوم به عملاء آخرون...
وبالتالي، فإن كل مستلزمات وجود خبير المحاسبة في قلب عملية مكافحة تبييض الأموال موجودة، لكن المفارقة أنه حتى اليوم لم تشمل هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان نقابة خبراء المحاسبة المجازين، على الرغم من ضلوعهم المباشر في مفاصل الحياة الاقتصادية، علماً بأن المادة الرابعة من القانون 318 ألزمت المؤسسات غير الخاضعة لقانون سرية المصارف بأن تمسك سجلات خاصة بالعمليات التي تفوق قيمتها المبلغ الذي يحدده مصرف لبنان، وبالتالي هم مجبرون على التدقيق في الهويات والاحتفاظ بوثائق رسمية ومراقبة العمليات التي يمكن أن تخفي تبييضاً للأموال...
ولذلك يجب أن يصبح القانون 318 أكثر شمولية، وتتمثل به النقابات والمهن الفاعلة كلها في المجتمع الاقتصادي، فضلاً عن أن الحصانة المهنية لخبراء المحاسبة قاعدة منهجية في مكافحة تبييض الأموال